صَيْدُ العصَافير بِقُبّةِ الغِربالْ

صَيْدُ العصَافير بِقُبّةِ الغِربالْ
د. جودت سرسك

في زوبيا القرية الجبلية في ضواحي عجلون السامقة التي تطلّ على فلسطين وتُسمع فيها أصوات العصافير التي تَطنّ في آذان الفلاحين البسطاء، يُرجعون كلَّ ضوءٍ يرونه من بعيد، إلى مدينة فلسطينية، يلبسون الزيّ العسكريّ الذي يتوارثونه أخاً عن أخٍ، وأبًا عن أبْ. يحرثون أرضَهم ويُشعلون حطبَ بلّوطِهم ويلاحقون الفِطرَ البُنيّ تحت الأرض الرطبة بين شقوق الصخور، يجمعون الخُبّيزة ويتزاوجون بأقلّ المهور، بيوتهم جِنان لا تُكلّف صاحبَها أكثر مِن موسميّ زيتونٍ أو راتبي خدمَة عَسْكرية.
يصطادون العصافير بالغِربال، والغربالُ أنواع: الصغير ويسمّونَه المُنخُل، يفرزون به الرمل الناعم عن الخشن، والغربال الكبير ويخصّصونه للقمح والشعير وصيدِ العصافير، إذ يصطادون بالغربال عصافير الدويري البلدية ويسمّيها أهلُ زوبيا بالحَذّيرة، لِحَذرها وشدّةِ انتباهها.
يربطون الغربال بحبل أو خيط ويضعون له عوداً من الأمام يسندون به الغربال، ويحلو لهم الصيد في مواسم الثلج، حيث تفتقر الطيور لِرزقِها، فتبحثُ عمّا يسُد رمقَها مِن أيِّ مصدر رطِب. يُقبل الأولاد على الصيد بدون شفقة أو رحمة، إذ يحبّون اللعب والنطنطة. يشعرون بنشوة الانتصار حين يمسكون العصفور مقلوباً من رجليه راجعين إلى البيت كأنهم غنموا حصانا محمّلاً بغنائم الجزية.
يرمون الخبز لها فتافيتَ فتافيت، تُقْبل عصافير الدويري إلى الغربال بحذر، فتدخل تحته ثم تخرج، وحين تشعر بالأمان يدخل واحدها ومن ثمّ يتبعه بقيةُ العصافير، فيسحب الزوبيّ الخيطَ فيصطادها جميعاً، يرفع شيئاً من الغربال، يُدخل يدَه فيسحبُها واحدةً تلو الأخرى، يذبحُها ويسفِكُ دمَها البريء.
يصطادونها بِطُعْمِ الدود، يُحضرونه من نَبتةِ البلّوط، حيث تدخل الدودةُ حبة البلوط بحثاً عن طعام لها في الشتاء، فيصطادها الزوبيّون ليصطادوا بها العصافير الجوعى.
– دودُه مِن عودُه وبلّوطُه-، يتراكم البلّوطُ على شجر السنديان، فحين يقع تحت الشجرة ويطول مكثُها، يخترقه دودُ الأرضِ بحثاً عن الُّلبْ.
ولصَيدِ العصافير طُرُقٌ أخرى، كالفخّ المصنوع بالسِلك المحلّي، يسرقه الأطفال من أعمدة الهواتف، زوبيا مدينة متحضرة تقبع على الخارطة من أيام المماليك.الفخّ لعبة وهواية قديمة لأهل زوبيا، يُصنع من فَوقِه على شكل دائرة، يجعلون لها قُطراً وساقاً من الأسفل.يكررون ثني السلك الدائري مرة أخرى ويشدّونه بسلكٍ من عجلات السيّارات التالفة بعد أن يحرقونها.
يميّز صيادوا العصافير الذكَرَ عن الأنثى من ذيله، إذ يتميّزُ الذكَرُ بنتوءٍ في مؤخرته مقارنة بنعومة ذيل الأنثى، إلا أنها تُصطاد جميعا دون تمييز، فلا فرق بين ذكرٍ وأنثى، إذ إنهم بِقَظبوهِن واحداً واحداً، وعند الذبح كلّ العصافير إناث.
إنّ زوبيا بلدةٌ طيبة وشجرها غزير، خرّجت العلماء والمشايخ والدراويش والمؤرخين وسُرّاد السِيَر، وخرّجت صيّادي العصافير وامتلك أمهرُهم جبالاً وأرتالاً من بقايا ذهَبِ أجدادِهم الرومان الذين كانوا يقبعون هناك.
أبدعت زوبيا في خبز الشراك وتسويق الحطَبِ والعنبِ الأخضرِ والأحمَر وحبّات الرمّان والنوّاب.
يجلس نائبُهم يستمع إلى موازنة الدولة ومطالبات المحافظات والحصَصِ الموزعة من الوظائف والعطايا، يرسم في أوراقه صورة فخّ وحوله دودة، ينظر إلى السقف فيرى الغربال الكبير وينظر للمقاعد المائة والعشرين من حوله فيرى العصافير ولا يقوى على تمييز الذّكَرِ منَ الأنثى فكلّم ملثّمون، وحين حان دورُه في إلقاء كلمتِه باسم زوبيا، قال بصوته القرويّ: كل عامٍ ونحنُ عصافير وأنتم غرابيل. وختم كلمته بصوتٍ أجش : اسحبوا الحبلَ واجمعونا من تحت الغربال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى