السفير عمرو موسى يبحث عن أخيه بيير الفرنسي

السفير عمرو موسى يبحث عن أخيه بيير الفرنسي
موسى العدوان

ولد عمرو موسى في القاهرة عام 1936، وكان والده الدكتور محمود أبو زيد مدرسا في جامعة فؤاد الأول، بعد تخرجه من جامعة ليون الفرنسية. أكمل عمرو دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية في القاهرة وحمل شهادة الحقوق. وأشغل وظائف عديدة في وزارة الخارجية المصرية وعمل رئيسا لجامعة الدول العربية، وترشح لرئاسة الجمهورية.

يقول عمرو موسى في مذكراته ( كتابيه )، القصة العائلية الطريفة التالية وأقتبس : ” قيل لي أن لي أخا آخر يعيش في فرنسا من أم تزوجها أبي، وهو يتلقى العلم هناك واسمه
( علي ) يكبرني بِ 14 سنة. حاول أبي أن يأتي به إلى مصر قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلا أنه واجه معارضة شديدة من أمه التي تمسكت، بأن بقاءه في فرنسا أفضل له من العيش في الشرق، وأن ذلك – وفقا لما تراه هي طبعا – يصب في مصلحته، في تعليمه وحياته ومستقبله.

اندلعت الحرب ووقعت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. فور معرفة أبي بهذا الخبر سقط مصابا بالفالج حزنا على ابنه، الذي لم يستطع الاتصال به أو معرفة مصيره. وظل يتعذب على فراش المرض إلى أن توفي عام 1945، دون أن يتمكن من معرفة ماذا حدث لابنه في فرنسا. وتمر السنون والسؤال عن مصير أخي غير الشقيق يكبر بداخلي. صار لغزا كبيرا في حياتي أعمل جاهدا على حله. كنت تواقا ومشتاقا لرؤية علي الذي تعلق به قلب الوالد إلى أن توفاه الله.

مقالات ذات صلة

عندما أنهيت الثانوية العامة قررت البحث عن خيط يقودني إليه. بدأت بالبحث في الأوراق الخاصة بأبي التي جمعتها والدتي في حقيبة، ظلت محتفظة بها إلى أن وصلت إلى هذه السن. فتحت الحقيبة ويحدوني الأمل والرجاء في العثور على مبتغاي. أول ما وقعت تحت يدي مجموعة خطابات بعث بها علي، الذي أعادت والدته تسميته ( بيير ) لوالدي قبل الحرب أو في بدايتها. قرأتها كلها بمساعدة أقربائي الملمين باللغة الفرنسية.

لفت نظري أن هذه الخطابات أتت من عنوان واحد، فهمت أنه بيت العائلة بشارع فاندوم في ليون. اعتبرت ذلك بداية الخيط الذي أبحث عنه. أرسلت لأخي خطابا عرّفته بنفسي، وطلبت منه أن يكتب إلي يطمئنني عليه ويقص لي أخباره. عشت أياما وشهورا عصيبة أترقب ساعي البريد في طنطا، عساه يأتي لي بذلك الخطاب الذي يتحرق قلبي شوقا إليه. لكنه – للأسف – لم يأتِ، فأصبت بخيبة أمل وإحباط شديدين . . . إنه لشعور مقيت أن يكون لك أخ ولو كان غير شقيق، وأنت عاجز عن الوصول إليه، أو لمجرد معلومة تقودك إليه.

بعد التحاقي بوزارة الخارجية ونقلي إلى العاصمة السويسرية، تجدد الأمل بداخلي في العثور على أخي أو أي معلومة تقودني لمصيره. في إحدى الإجازات التي أمضيتها في باريس سنة 1962 / 1963، هداني تفكيري للبحث عن اسمه في دفتر التلفونات الخاص بهذه المدينة. لم أصدق نفسي عندما وجدت اسمه مكتوبا بهذا الدفتر. اهتزت جوارحي كما لم تهتز من قبل، رجف قلبي بشدة، تذكرت أبي على الفور. خاطبته كأني واقف أمامه : يبدو أن الله قد أراد أن يريح قلبك الذي لاقيت ربك وهو موجوع على أخي. كم كنت أتمنى يا أبي أن تكون على قيد الحياة، كي أزف إليك هذه البشارة.

حاولت استجماع القوى وتمالك الأعصاب في أثناء إمساكي بالسماعة، لإجراء أول اتصال بِ علي أو بيير. قدمت له نفسي : أنا أخوك عمرو، ظهر مترددا في البداية وغير قادر على استيعاب ما أقوله له. فهو الآن في الأربعين من عمره، وبعد كل هذه السنوات يتلقى تلفونا من شخص يقول له : أنا أخوك، كانت المفاجأة كبيرة عليه. قال أنه يعمل في قطاع البنوك، وأنه عائد لتوه من واشنطن، حيث كان يمثل فرنسا في أحد الاجتماعات المهمة، وأنه مسافر إلى إفريقيا في ظرف أيام قليلة. في آخر المكالمة قلت له : أني سعيد جدا بالوصول إليك، وهذا رقم تلفوني في سويسرا حيث أعمل في السفارة المصرية هناك، يمكنك الاتصال بي متى سمحت ظروفك.

قال بيير وقد بدأ يستوعب ما أقوله : لا . . لا . . لابد أن نلتقي قبل أن تغادر فرنسا، ودعاني إلى فنجان قهوة بعد يومين في ( الكافيه دي لاييه ) قضيت اليوم واليوم الذي يليه وأنا متوتر الأعصاب. رحت أفكر فيما يمكنني أن أقول له. هل أحكي له عن مرض والدنا بسبب خوفه عليه بعد اندلاع الحرب، أم أجعل اللقاء لطيفا هنيا باعتباره لقاء تعارف، أتوقع أن تتلوه لقاءات أخرى ؟ انحزت إلى الخيار الثاني.

ذهبت إلى الكافيه دي لاييه قبل الموعد بساعة أو أقل قليلا. جلست على مائدة تمكنني من رؤية كل من يدخل من الباب الرئيسي، وتمكن الداخل أيضا من رؤيتي، وتشاغلت بقراءة صحيفة. الوقت يمر بطيئا جدا وبدأ الناس يتقاطرون على الكافيه فهو وقت ( شاي بعد الظهر ). ورحت أشخص ببصري صوب الباب الرئيسي، متمنيا أن أتمكن من التعرف على أخي دون أن يتوه أو أتوه أنا منه.

فجأة دخل ( والدي ) فوقفت . . وتوجه هو إليّ وتصافحنا. قلت : ( والدي ) لأن بيير يشبه والدي تماما. أول ما قاله لي : تعرفت عليّ بسهولة يبدو أنك ذكي. قلت : كل ما في الأمر أنك تشبه والدنا بشدة، لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص، فأظهر سروره “. انتهى الاقتباس . . وللحديث بقية.
* * *
التعليق :
قد لا تتضمن هذه القصة الكثير من العبر للقارئ الكريم، ولكنها تعبّر عن حالة إنسانية بين أخ وأخيه. ولكنني أحببت أن آخذ معكم ( تايم أوت ) بلغة الرياضيين، لكي نبتعد قليلا عن الجو المتشنج هذه الأيام، الذي تكتنفه الكثير من قضايا الفساد، ابتداء من مصانع الدخّان، إلى تهريب المتورطين به، إلى قضايا المخدرات، إلى ممارسات الحكومة وعبقريتها في استنباط الضرائب، إلى تأجير الأراضي الحكومية بثمن بخس، إلى قضايا الأعيان والنواب وشكواهم مما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيرا إلى غزلان المحميات التي سُرقت في عزّ النهار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى