رمضان شهر ليلة القدر

#رمضان شهر ليلة القدر

ماجد دودين

الحمدُ لله الَّذِي نَصب من كلِّ كائنٍ على وَحْدانيتِه بُرهاناً، وتصرَّفَ في خليقَتِه كما شاءَ عزّاً وسُلطاناً، واختارَ المتقينَ فوَهبَ لهم أمناً وإيماناً، وعمَّ المذنبينَ بحلْمِه ورحمتِه عفْواً وغُفراناً، ولم يَقطعْ أرزاقَ أهلِ معصيتِه جوداً وامتناناً، روَّح أهلَ الإِخلاصِ بنسيم قربه، وحذَّر يومَ الحساب بجسيمِ كربِه، وحفظ السالكَ نحوَ رضاه في سِرْبه، وأكرَمَ المؤمنَ إذْ كتب الإِيمانَ في قلبِه. حَكَمَ في بَرِيَّتِه فأمَر ونَهَى، وأقام بمعونتِهِ ما ضَعُفَ ووَهىَ، وأيْقَظَ بموْعظتِهِ مَنْ غفَل وَسَها، ودَعَا المُذْنِبَ إلى التوبةِ لغفرانِ ذنبه، ربٌّ عظيمٌ لا يماثل الأنام، وغنيٌّ كريمٌ لا يحتاجُ إلى الشرابِ والطعام، الْخَلْقُ مفتقرونَ إليه على الدوام، ومضْطرُّون إلى رحمتِهِ في الليالي والأيام.

أحمدُه حمدَ عابدٍ لربه، معتذرٍ إليه من تقصيرِهِ وذنبِه، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ من قلبِه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى من حِزبه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن اهتدى بهدْيِه، وسلَّم تسليماً

ليلة القدر ليلة يُفتح فيها الباب، ويُقرّب فيها الأحباب، ويُسمع الخطاب ويُرد الجواب ويُسنى للعاملين عظيم الأجر. هي ليلة عتق وقربة ومصافاة.

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر]

“الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري.

آيات تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في القرآن “إنا أنزلناه في ليلة القدر”. ونور الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر… ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود “سلام هي حتى مطلع الفجر”، قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث العظيم.. حدث القرآن والوحي والرسالة.. ليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد. وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن إنما يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر.

فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري “وما أدراك ما ليلة القدر”.

هي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله. وإسباغ السلام من الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية.

وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان وفي واقع الأرض، وفىِ تصورات القلوب والعقول.. فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً، وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الآية: “…وما أدراك ما ليلة القدر”.

لقد فُرِقَ فيها من كل أمر حكيم، وقد وضعت فيها قيم وأسس وموازين، وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد … أقدار أمم ودول وشعوب، بل أكثر وأعظم.. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!

ولقد تغفل البشرية عن قدر ليلة القدر… وعن حقيقة ذلك الحدث، فتخسر السعادة والسلام الحقيقي -سلام الضمير، وسلام البيت وسلام المجتمع- الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة، فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!

لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين”.

وليلة قد أشرقت في تطلعي **إلى الله أدعو أستمد الرضا الأعلى

وأدنو بخفق القلب ملء ضراعتي **صمت وبعض الصمت من كلمٍ أجلى

وأسأل رب الكون للكون رحمةً ** حناناً وإحساناً وعافية مثلى

أيا ليلة القدر السنية ليت لي **شعاع تجلٍ منك يسعف في الجلى

ويسمو بهذا الحب حراً لربه ** من الملإ الأدنى إلى الملإ الأعلى

سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر أي شرف ومنزلة.

“وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر” .

قال ابن جرير: قال بعضهم معنى ذلك العمل في ليلة القدر بما يرضي الله، خير من العمل في غيرها ألف شهر.

عن مجاهد قال: “عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر”.

وقال عمرو بن قيس: “عمل فيها خير من عمل ألف شهر”.

وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

قال أبو بكر الورّاق: سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر.

“تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”.

تنزل الملائكة وجبريل معهم في ليلة القدر من كل أمر قضاه الله في تلك السنة، من رزق وأجل.

قال قتادة: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.

“سلام هي حتى مطلع الفجر”.

سلام ليلة القدر من الشر كله من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها.

قال قتادة: “هي خير كلها إلى مطلع الفجر”.

عن أنس رضي الله عنه قال: ” لمَّا حضَرَ رمضانُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قد جاءَكم رمضانُ، شهرٌ مُبارَكٌ، افترَضَ اللهُ عليكم صِيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجَحيمِ، وتُغَلُّ فيه الشَّياطينُ، فيه لَيلةٌ خَيرٌ مِن ألْفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خَيرَها فقد حُرِمَ. “.

هذه ليلة يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جَدّ وسرى، ويُفك فيها العاني وتطلق الأسْرى.

لقد كان رسولكم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجتهد في العشر الأواخر ويعتكف، إلتماساً لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاء لتلك الليلة.

فيا مَنْ ضاع عمره في لا شيء استدرك ما فات في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.

شفيت بها قلباً أطيل غليله … زمانا فكانت ليلة بليالي

وإليك هدايا الملك تزف في هذه الليلة.

يقول الأميري في ليلة القدر:

تألّه قلبي لمّا سَجَدتُ أهيم بمحراب خيرِ الأنام

وأُرسِلُ من شَفتيه الدُعاء وجيباً، وفي السمع سَجْع الحمام

وفي أعيني من سَنا الله بَرْق يُحَسّ، ولكنه لا يُشامْ

لهُ في خلاياي دفع ورَفْعٌ إلى شُرُفات حمىً لا يُرامُ

تحُفُّ بروحي عَوالمُ ولْهى كأني بها كُوِّنت من سلام

أغيبُ، كمن نام في نشوةٍ ونفسي … عُيُونُ هوىً لا تنام

وأشعُرُ أنّ كياني تمدّدّ حتى تَخَطى الدّنى والحُطام

أقولُ سموتُ؟! وفوق السُّموِّ أقولُ ثملتُ؟! وما من مُدام

أقول ارتويتُ؟! أجلْ لا ولا وَكيف ارتويتُ وكُلي أُوام

إلا إنها نُعمياتُ التجلِّي هُيامُ سجودٍ يفوق الهُيام

فسبحانك الله مِلء الوجودِ ومِلْء السُّجود ومِلْء القِيام

ويرق شعر الأميري ويرق ويعذب في ليلة القدر:

يا رُؤى الإشراق في الليلِ المنيرِ … يا شذا الرضوانِ في الخلدِ النضيرِ

هلْ لنَفْسي أَملٌ في نَفْحَة … مِن فُيوضِ الله، إنْ لج مسيري

هذه روحيَ حامَتْ وَلَهاً … وتسامَتْ فوقَ أجواءِ الأثيرِ

واشرأبت والجوى يَحْفِزُها … في التماس الأمَلِ الرحبِ الأثير

تبتَغي مِن لَيلةِ القَدْرِ سَناً … لَيتَها تنعَمُ مِنْهَا بعبِيرِ

وإليك هدايا الملك الكريم الجواد تزف في هذه الليلة:

  • عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.

الإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثَمَّ قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في القيام في هذه الليلة أن يكونا “إيماناً واحتساباً”.. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة “إيماناً” وليكون تجرداً لله وخلوصاً “واحتساباً”..

دَعا رَمضانُ الخَيْرِ كلَّ مُرابِطٍ لَدَيْهِ .. فَلَبَّى المؤمنونَ على الإثْـرِ

وطافَتْ بهمْ ريحُ الجِنانِ عَليلةً تَهُبُّ مِنَ الرّحمنِ .. ذائِعَةَ النَّشْـرِ

  • * *

تَنَفَّسَ فيها الخُلْدُ حينَ تفتّحَتْ أزاهيرُهُ البَيْضاءُ في (ليلةِ القَدْرِ)

فَطُوبى لِمَنْ يَحْظى بِشَمِّ عَبيرِها فَيَسْجُدُ مَغْشِياً عَلَيْهِ مِنَ البِشْـرِ

ويَضْرَعُ في حُبٍّ ويَبْكي من الجَوَى ويَكْتُمُ أشْواقاً تأجَّجُ كالجَمْـرِ

ويُصْغِي إلى صَوْتِ السَّماءِ كأنَّهُ صَدى خَفَقاتِ القَلْبِ يَنْبِضُ في الصَّدرِ

صِيامُكَ مِفْتاحٌ لِكُلِّ فَضيلَةٍ يُزوِّدُكَ التقوى..ويُغْريكَ بالطُّهْـرِ

فقلْ مُخْلِصاً: آمَنْتُ باللهِ واستَقِمْ وأَحْسِنْ لَهُ الأعْمالَ في السِّرِّ والجَهْرِ

هنا مَصْنَعُ الأبطالِ.. يَصْنَعُ أُمَّةً وينفُخُ فيها قوةَ الرّوحِ والفِـكْرِ

ويَخلَعُ عنها كلَّ قَيْدٍ يَعوقُها و يُعْلي منارَ الحَقِّ..والصّدْقِ والصَّبْرِ

تَصومُ إذا صامَتْ عَنِ الفُحْشِ والخَنا وتُفْطِرُ في مَنْأَىً عَنِ الرِّجْسِ والجَوْرِ

لها العِيدُ بُشْرى في الحَياةِ .. ومثلُهُ وأَفضَلُ منْهُ يَوْمَ تُبْعَثُ في الحَشْرِ

ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة:

عن أَبِي هُرَيْرَةَ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ ، إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى ))

ما يدعى به في ليلة القدر:

ـ (( عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ))

ليلة القدر:

ويقول ابن تيمية رحمه الله:

“ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتكون في الوتر منها

“عفوك يا عفوّ عفوك، في المحيا عفوك، وفي الممات عفوك، وفي القبور عفوك، وعند النشور عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند ممر الصراط عفوك، وعند الميزان عفوك، وفي جميع الأحوال عفوك يا عفوّ عفوك”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى