أنا شركسية … ولست باكستانية / أبو ورد

أنا شركسية … ولست باكستانية
ألقت بي عصا النوى في مدرسة الرتيمة الأساسية ، طالبا في الصف الثالث ، يومها كانت طائرات الميراج الإسرائيلية تمخر سماء عمان على ارتفاع متوسط ، تحوم فوق مطار ماركا العسكري ، كنت أدقق النظر ، وبخيال الطفل أحلق عاليا ، أرافقها ، وأحل اللغز . في أواخر الستينات كان الجو مشحونا . البلاغات العسكرية تملأ المذياع ، تتحدث عن بطولات حقيقية للجندي الاردني في مواجهة الصلف والتفوق التكنولوجي للعدو ، وكان الشهداء يسقطون كل يوم ، صارت الشهادة عمل يومي ، الضباط يسبقون جنودهم . يبكيهم الرفاق ، تحملهم سيارات عسكرية عبر طريق الغور القديم مرورا بالعدسية ووصولا إلى مستشفى ماركا العسكري .

مدرسة الرتيمة قديمة المبنى ، يتعربش أسوارها شجر كثيف من الدوالي ، وكثيرا ما تسلقت لأجمع بعض الأوراق إلى مربية صفي ازدهار الدباغ . في باحة المدرسة لفت نظري روحية بطوخ . جميلة القد والقوام ، شعرها أشقر تسرحه بطريقة دائرية ثم تجعل في نهايته كرة اخرى صغيرة . نشأت بيت الطالب ومعلمته علاقة خاصة ، تفوقت في دروسي ، وكنت أؤدي بعض الواجبات بسرعة وعلى أكمل وجه . ذات صبيحة توقفت سيارة اوبل ستيشن ترجل منها رجل أشقر ، نافر عروق الرقبة ، وبدأ الحديث بلغة ليست عربية ، كانت تحكي باستيحاء ، تقلب وجهها في كل الاتجاهات ، وكنت أتوغل بالمشهد ، فجأة نظرت إلي ، وبحركة سريعة من عينيها طلبت مني المغادرة . صدمني المشهد وآذاني ، فكيف لمربيتي أن تنطلق في حديث مع رجل غريب ، باكستاني ، وعلى مرأى من الجميع . هكذا تخيل الطفل . غضبت منها . وتحجمت علاقة الطالب إلى أقصى حد . بكثير من الحزن والغضب رويت الحكاية للوالدة والوالد . بعد شهر تقريبا ، فوجئت بزيارة لوالدي ، كان جالسا بحضرة روحية ، وكانت تضحك من كل قلبها ، يبدو انه اعاد رواية القصة ، واذكر انها قالت : ابن عمي يا منصور ، أنا شركسية ولست باكستانية ، وعادت المياه إلى مجاريها !
قضيت عاما كاملا في الرتيمة . انتقلت بعدها إلى مدرسة عباس محمود العقاد ، كان العنف المدرسي على أشده . العنف بدأ يتغلغل في المجتمع ، مشاجرات جماعية عنيفة ، عقوبات المدرسين أعنف . والأجواء قاتمة .صفعني مدرس الرياضة بأقصى ما عنده . بقيت أسبوعا كاملا أتنفس من طبلة الأذن . فقط أحمد رمضان ، مدرس اللغة العربية ، وابن مخيم شلنر ، ظل هادئا ، يمارس المطالعة في فراغه ، ويعشق الجميع .

ذات صبيحة اندلقت حجارة كثيرة إلى داخل الصف ، تكسر الزجاج ، واستمر هطول الحجارة ، ثمة أصوات ضخمة تتعالى وتقترب من المدرسة ، تدافع الطلاب من باب الغرفة فضولا وخوفا ، كانت المظاهرة الأولى التي أشاهدها في حياتي ، مراهق يعتلي أكتاف رجل ، وحولهما عشرات من الصبية والمراهقين يشتمون امريكا ، ومشروع وزير خارجيتها ، ويمضون باتجاه الشارع الرئيس ، اندسست بين الجموع ، وبدأت بالشتم . لم أكمل يومي الدراسي ، انفض الجميع ، وقضيت بقية نهاري متسكعا في حواري ماركا وأزقتها .

كان المذياع يؤدي دورا مهما ، والبلاغات العسكرية مقتضبة وصادقة ، والمدفعية السادسة تؤدي دورها على أكمل وجه ، دائما كانت تنتهي بإسكات مصادر نيران العدو ، أتخيلها رابضة على مرتفعات السلط ، رجالها لا يهابون الموت . وللسلط تاريخ مجيد . في الخطوط
الأمامية ، وفي مواجهة مباشرة مع الشهادة كانت تنتشر كمائن الجيش ، لم يخذلوا العابرين من المقاومين إلى الغرب ، فكل عبور كان ينتهي بإشتباك مسلح ، يمتد أغلب الأحيان إلى مواقع أخرى ، يسقط بعض الشهداء ، بعض الجرحى ، ويظل الجميع يده على الزناد .

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى