د.عمر الخواجا: حبّ مُختلف في رواية ضجيج الفراق لديما الرجبي

د. عمر الخـواجــــــــــا

الحبّ هو الحب والرواية هي ديوان العرب الحديث والكاتبة هي المبدعة ديما الرجبي والعنوان الجديد هو (ضجيج الفراق) حيث نقرأ عن حبّ مختلف من خلال كلمات تضجّ بالشّاعرية والعواطف والأشواق، تكتبُ الرجبي في روايتها الجديدة عن بركان من الأحاسيس المتّقدة بين ضلوع البطلة مريم وهي تواجه قدرها بمزيد من المغامرة والشجاعة والثبات، نحن أمام رواية تتحدّثُ عن ذلك الحبّ الذي اشتعلت نيرانه في قلب فتاة عربية مُحاصرة ما بين غربة الجسد والمكان والروح وغربة الرّجل العربي وتناقضاته العاطفية والاجتماعية .

كيف بدأت مريم حكايتها؟ (… كانت آخر جمعة من شهر أيلول وضعت من يدي كوب القهوة ونظرت الى رقصات أشجار المشمش في هذا اليوم الفوضوي بأمطاره الرعدية لم تكن كعادتها أقصد الشجرة المحاذية لشرفتي رغم أنها تهتاج بغضب فاضح كلّما صفعتها العواصف إلا انها صامتة إلى حدّ مقلق، أعلم كوني امرأة أن الغضب لا يعني البوح ربما هو وجه من وجوه التّكلف او ما اعتدنا فعله عندما تتكرر الأفعال … ص 13).

تبدأُ الرواية في الحديث عن يوم خريفيّ مُحمّل بالأمطار الرّعدية حيث تبدأ الغيوم بالانتشار وتنشط الرّياح وتتساقطُ أوراق الأشجار ويتغير المناخ سريعا ما بين صاف وغائم وعاصف وماطر ويقابل هذا التقلّب المناخيّ تقلب مزاجيّ توحي به كلمات مريم التي تتأمل رقصات شـجرة المشمش التي تواجه هذه التغيرات الجوية بغضب صامت حيث تستوحي البطلة من هذا الصمت بداية حكايتها من خلال الكتابة عن مشاعرها المضطربة إزاء التقلبات النفسية والعاطفية …

تبدأ الرواية والبطلة مريم في شقتها الوادعة في حي هادئ من أحياء مدينة إسطنبول التركية ، هي بداية روائية تجمعُ بين النقيضين في مشهد يصور حالة نفسية ونقيضها في ذات الوقت حيث مشهد الصمت والسكينة يقابله مشهد الرياح والرعود والأمطار وحيث صورة الهدوء والطمأنينة تقابلها صورة الاضطراب والشوق انها الأوجه المتقابلة للحياة بما تُمثله من أبيض وأسود وما بينهما من درجات الألوان المختلفة نحن أمام بداية حبّ مختلف تكتبُ فصوله الروائية ديما الرجبي تحت عنوان روائي مُميز ضجيج الفراق .

اسمي مريم هكذا تتحدّثُ البطلة عن نفسها واصفة مشاعرها المتناقضة تجاه ما يحمله اسمها من دلالات ورموز تاريخية ودينية ولكنّها تعبّرُ أيضا عما يعتمل في صدرها من تناقضات عاطفية مُتحركة في مواجهة القوالب والمحددات الاجتماعية في تعبير مباشر عن رفض ظاهرة التنميط الاجتماعي التي تبدأ بعملية إطلاق الأسماء ذات الدلالات المحددة (… قد أكون هدى أو ميرفت أو حتى أم صبحي لكن مؤكدا لست مريم ص 13) … تصف مريم ما تعانيه من سلوك اجتماعي يحيطها بقيود كثيرة فحينما يواجهها السؤال الصعب حول وضعها الاجتماعي تعجز عن الإجابة فهي من ( فصيلة المطلقات ) لقد حصلت على هذا اللقب بعد تجربة زواج سريع فشل في تحقيق أهدافها أو اقناعها أنها وصلت لمرحلة الاستقرار الاجتماعي ، زواج نتج عن علاقة عاطفية سريعة أو متسرعة بين مريم ومعاذ … ( … معاذ رجل بسيط جدا وبرغم وسامته إلا أنه لم يستطع امتلاك قلبي ولا الالتقاء مع عقلي ، كان من الرجال الذين لا يبحثون عن يوم غد ، اشعرني بأنّ الحياة توقفت ما أن وطئت قدماي عش الزوجية … ص 20 ) … وهنا تظهر بشكل واضح شخصية البطلة مريم من خلال تطلّعها الدائم لحياة مليئة بالمغامرة والتغيير ورفضها للرّكود والبساطة ، فهي لا تقبلُ بحياة تقليدية تقوم على زواج يخضع للمقاييس العادية والتقليدية انها تبحث عن حب مُختلف حب لا يخضع لمعايير تحكمها التقاليد والأعراف التي ترى في الزواج غاية العلاقة وهدفها الأخير ولذلك تبحث مريم عن شـخصية مُختلفة، شخصية مصنوعة من المشاعر المتدفقة والأحاسيس المرهفة وهنا يظهرُ البطل العاشق يزن من خلال أشعاره التي تحتلّ مساحة مميزة من عتبات الرواية حيث تعتمدها الكاتبة كمقدمة من ضمن المقدمات الأخرى التي تبدأ بها الحكاية ( … يا أول الأسماء في سفري وآخر الأسماء … ص 9 ) حيث يبث يزن من خلال كلماته الشاعرية شوقا وحبا كبيرا لمحبوبته التي يرى من خلال عينيها أحلامه ومستقبله ورؤاه وطموحه
(… يزن الأمان، الاحتواء، الرجولة، العشق، الجنون … يزن انعكاس مرآتي المشروخة التي إذا ما نظرت لها من خلاله تعافت … ص 30) … هكذا تبدو صورة يزن المحبوب من خلال كلمات مريم المفعمة بالآمال والطموح والشوق والجنون … شـخصية يزن رغم غموضها الا انها تبدو لمريم شخصية استثنائية

(… سلام عليكم أصحاب القلم الذي ما خط يوما إلا الحق وما جرت رياح سطوره الا نحو بوصلة واحدة، أنا يزن تدليت من سور وطني الذبيح اليمن وسقطت على أبواب التاريخ العثماني لأروي معكم ما غيبته بعض السطور، ينادونني المؤرخ ، وأعشق التاريخ ، وأود ولوج أبوابكم إلى عبق الاصالة من قلب مؤسستكم الغراء دار الغربة للصحافة والاعلام .. ص 39 ) … هكذا يفصح يزن عن نفسه من خلال هذا الطلب المقدم للمؤسسة الصحفية من أجل الحصول على وظيفة، فهو يتحدث عن جنسيته اليمنية وعن عشقه للتاريخ وطموحه الوظيفيّ المفعم بالحماسة والأمل والقوة حيث يصف نفسه بأنه باحث ومؤرخ مما يشير بشكل واضح للثقة الكبيرة التي يتمتع بها يزن رغم صغر سنه فهو في السادسة والعشرين حاصل على درجة الماجستير يمتلك قدرة بالغة في التعبير عن نفسه بأسلوب أدبيّ مليء بالثقة والموهبة والمعرفة وهنا من الضروري أن نقرأ عن صورة يزن في موقعه الوظيفيّ من خلال كلمات مريم حيث تقول عنه
( شعرت بأنه أضاف شيئا جديدا للعمل ، كان مثقفا لامعا لديه فطرة ربانية لا يستطيع احد ان يكبله براي مخالف ، خلوق يغض بصره عندما يتحدث للزميلات .. ص 42)
ان ظهور هذا العاشق المختلف قد أحدث تغييرا يشبه الزلزال الكبير في قلب وعقل البطلة مريم (اخترق يزن عالمي وأصبح يُشكّل مزاجي كما كان يقول لي: أنت تشكلين مزاجي. كيف؟ إذا شعرت بفرحك غمرتني سعادتك وإذا انتابك احباط يتهاوى عالمي، أنت ترسمين هذه التفاصيل دون أن تعلمي. فأصبحت أستمد منه بداية اليوم ص 50) يزن شـخصية مميزة فهو عاشق مختلف يصف حبه بطريقة جنونية مختلفة
(مريم … أرجوك… لا تدعي جنونك يتلف ما بيننا، سأنسى كما دائما ما تفوهت به وأخبرك بأمر واحد فقط … إياك أحبّ ولا أشتاق سواك … ص 96) ترى كيف هو هذا الحب كيف كانت مريم بالنسبة للعاشق يزن؟ (…كل شيء بك يفتنني، ألا تصدقي! من أخمص قدميك حتى قمة رأسك، أعشق تفاصيلك كلها، عقلك جنونك دفئك، أتعلمين كيف انت بالنسبة لي …؟ أنت التي تحافظين على أجزائي مُتماسكة ، دون أن أفقد الإحساس بنفسي ، لا أصلح دونك يا ابتلائي … ص 127 ) ومن مظاهر هذا العشق الجنونيّ هذا التناقض الغريب بين الحب الملتهب تجاه يزن ومحاولة مريم أن تجد له أعذارا ومبررات لتصرفاته الغريبة ، فهي تتحدث عن تجربتها وتقارنها بتجربته المتواضعة ضمن موازنات جنونية لا تحتمل منطقا ما ( … كنت أشعر بالذنب تجاهه لأنه شاب أعزب وأنا سبق لي تجربة الزواج ، مضت أوقات كثيرة وأنا أقنعه بأن يقدم على هذه الخطوة ولم يكن كلاما عابرا أو تفريغا لعقدة الذنب تجاهه ، بل كنت أتمنى أن يستقر ويعيش غمار هذه التجربة … ص 129 )
ضجيج الفراق رواية عابقة بالتحدي والحبّ ومواجهة المصير الحتمي لفتاة تعاني من آثار تجربتها العاطفية السـابقة وتعاني مرة أخرى من جرح جديد بعد أن يتركها يزن وحيدة ويمضي بعيدا ( يزن لا يهاتفني ، رحل إلى اليمن ليرتب أمور زواجه ، يزن يبتعد كثيرا ص 103 )

حب مختلف يترك جرحا كبيرا ويمثل معاناة جديدة … تعاني مريم تقف على حافة الحب وتخترق حاجز المعاناة وتشرف على حاجز الجنون لقد رسمت الرجبي مراحل المعاناة لأبطالها من خلال صور شاعرية متكررة فهي تأخذ بسياق الأحداث نحو الحدود القصوى من خلال كلمات الحب والمعاناة والجنون … نهاية الحب الجنوني يعود يزن لليمن مُلبيّا رغبة والدته ووالده في تزويجه ولكنّه يتمنى من مريم أن تتفهّم وجهة نظره ولكن كيف لمن بحثت عن حب يخترق حدود المعقول أن تتقبّل واقعا تقليديا بينما هي خاضت كل حروبها في مواجهة القيود الاجتماعية والعادات والتقاليد … ؟؟ وأمام هذا التناقض الغريب تترك الكاتبة للأقدار دورا في تحديد نهاية هذه الحكاية بين العاشقين عبر تصوير معاناة مريم والتي يمكن ان نلمسها من خلال كلماتها لصديقتها صفاء وهي تصف بعضا من معاناتها (…. لا أريد يا صفاء، لا أستطيع أن أنهي يزن هكذا أتجاوزه، ليس بمقدوري أن أهمش هذا العمر الذي بيننا، لا أملك ممحاة تقدر على صنع ذلك، فهو اليزن الذي ما زلت أستظلّ بأمانه، وأعلم بأني لو احتجته سأجده هارعا مُلبيا لي، ليته لبّى ندائي بأن يبقى، لقد أقسم لي ألا يغادرني وتعاهدنا ألا يفرقنا حتى الموت …ص 148)
ومن ضمن محاولات مريم نسيان يزن هو عودتها للعمل الميداني في المجال الصحفي ومحاولة متابعة الازمات الاجتماعية والعاطفية التي تواجه النساء بشكل عام والمعنفات بشكل خاص ومن خلال استغراقها في جو العمل تكتشف أنها كانت تعشق تلك الصورة التي ظهر عليها يزن أو حاول رسمها صورة العاشق الذي لن يترك حبيبته… شيئا فشيئا تستيقظ مريم من حالة الحب الحنوني وترتطم بأرض الواقع المغاير الواقع المليء بالرغبات والمصالح الشخصية والكذب والتضليل والاوهام … مريم تبدو قوية في مواجهة واقعها الصعب حيث تصل لعلاج هذا الضجيج ( … لكي يصمت الضجيج لا بدّ من اقتلاع الذكرى من داخلنا ، ضحّى يزن بحبنا لأجل أول فرصة متفق عليها ، ووضع عقبات أمام حقي بالارتباط به ، لانه مؤمن بهذه الخرافات التي كبر على سماعها وامست تحمل قدسية بداخله لا تحتمل التكذيب وجد يزن بي فرصة تقيد جموح عزوبيته على ان يجد مخرجا مقدسا للارتباط ، استخدم علاقتنا كما يشتهي وانهى العقد الذي بيننا وفق رزنامته الخاصة ص 166 )
تنتهي رواية الحب المجنون وقد أدركت مريم أنها يجب أن تبتعد عن المثالية في تناول العلاقات العاطفية فها هي تحمل حقائبها وتغادر مطار إسطنبول وقد تركت ورائها ضجيح الحب الجنوني الغريب
( .. تحملت تبعات عنادي وجموحي ، وشعرت بقساوة قلبي عندما اخترت أن ابتعد عن كنف من احبوني دون شروط ولا عقود ، لم تكن النهاية كما تليق بي ، لم اتخيل نهاية هاربة كهذه ،خائنة كاذبة كالتي حظيت بها معه ، وها هو يمضي عقدا أبديا ، وانا تمنحني الحياة فرصة ثانية لن أرتدي قناعا أمام أحد سأبقى كما تعلمت أن أكون معه ص 167 )
تتميز الكاتبة ديما الرجبي بإعطائها دورا كبيرا للعتبات الأولى في نصّها الروائي فهي تستخدم كثيرا من الحكم والأمثال والشعر والاقتباسات في مقدمة الرواية محاولة اختصار كثير من الجمل والعبارات الطويلة وتترك لشخصيات رواياتها دورا كبيرا في هذا المجال حث نشاهدها تقتبس من كلمات مريم ويزن ما يشبه مدخلا للرواية ولكنّ ما يميز روايتها الجديدة ضجيج الفراق هو غلافها والذي احتوى لوحة فنية للرجبي في محاولة منها لإعطاء القارئ فكرة أولية عن الرواية من خلال الرسم وهي تجربة تحمل في طياتها كثيرا من الجرأة والمغامرة والدلالة
في روايتها الجديدة تكتب الرجبي بأسلوب مميز تسير فيه منذ تجربتها الروائية الأولى حيث تعتمد في سردها المختزل على تحريك مشاعر القارئ والولوج به في عالم النص من خلال تصوير ورسم العواطف والأحاسيس بالحروف والكلمات التي تضجّ بالمعاني والأفكار والقصائد والموسيقى مما يُشعر القارئ أنه أصبح جزءا من هذا الطوفان الكبير من المشاعر والأحزان والتناقضات العاطفية ذات الآثار الصادمة حيث يغرق القارئ في كلمات الحبّ واللوعة والغرام التي يرسمها العاشق المجنون يزن ( … يا سيدة الملكات وقبلة العشاق ، يا روعة المساء وفوضى المشاعر ، أريد قليلا من صمتك لأرسم نفسي على شفتيك وأكون كحلا في عينيك وحلقا أهسهس في أذنيك … أريد إيلافا من الزمن ، تكون بحجم حنيني إليك ، أريد أرضا من الجنة أزرعها ورودا لك أريد لغات تسعفني فيك ، من أين لي بنسمة دافئة تمور الآن في مربعك ، تلملم عطرك وتأتيني به قبل أن يرتدّ إليّ طرفي ، يا حبيبتي لو كنت مخيرا لاخترتك وأنا مسير لأختارك فلا طاعة لعاشق بمعصية العشيق وأنا أحبك عاصيا لفراقي ومتنسكا بقربي لا تحدثيني عن فرق العمر بيننا فأنا ولدت من رحم عشقك من جديد ، كم فاتني من الوقت عن لقياك ؟ ص 52 ) هي ديما الرجبي التي تصنع من عالمها الروائي مكانا للشعر والموسيقى والمعاناة والتأمل والحزن … فهي منذ روايتها الأولى تشرك القارئ في نصّها وكأنه شخصية مركزية في أحداث الرواية وتترك له حيزا للمشاركة الوجدانية مع الأحداث والمفارقات مما يسمح له بالولوج في العوالم الداخلية لشخصيات الحكاية والتفاعل مع احزانها وآلامها وأفكارها … في رواية ضجيج الفراق نجحت الرجبي في رسم عالم روائي يحمل في أجزائه المبعثرة أحزان الصدمات والخيبات العاطفية وتتحرك في مساحاته الشاسعة شـخصيات فريدة من نوعها أحيانا نجدهم قريبين من الواقع وكأنّهم يتنقلون بيننا بكامل صفاتهم وحبهم وكلماتهم وأحيانا أخرى تحملهم الروائية بعيدا في عالم خياليّ من الأحلام والحبّ والأمنيات والخيال … بهذا الأسلوب المميز تخط الرجبي تجربتها الروائية معلنة مع كل إصدار جديد أنها ما زالت تحملُ كثيرا من المشاريع الأدبية ذات الخصائص المميزة ونحن ندرك جيدا أن هذا العمل الروائي الهام ضجيج الفراق محطة هامة من مسيرتها الأدبية التي نتمنى ونتوقع لها مزيدا من التقدم والنجاح

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى