د. البراري يكتب عن تفكيك الهوية الوطنية

#تفكيك #الهوية_الوطنية

د. حسن البراري

لا يمكنُ الإشارة إلى أي هوية وطنية في الإقليم أكثر تنوعًا وثراءً من الهوية الوطنية #الأردنية، والأردنيون الذين قبلوا برشيد طليع (درزي لبناني) كأول رئيس وزراء لإمارة شرق #الأردن لم يسألوا عن أصله وفصله بل اعتبروه أردنيًا كامل المواطنة، ولم يُسجل أن كان هناك #معارضة من أي شكل لتولي رشيد طليع الموقع الأول في الأردن، كما لم يُثر تولي توفيق أبو الهدى نفس المنصب وهو من اصول فلسطينية أو سعيد المفتي وهو شركسي أي احتجاج في الأردن. وللعلم أول رئيس وزراء من أصول شرق أردنية كان هزاع المجالي في عام 1955. وسبق هزاع المجالي عشرة رؤساء حكومات هم: رشيد طليع، مظهر رسلان، علي رضا الركابي، حسن خالد أبو الهدى، عبدالله سراج، ابراهيم هاشم، توفيق أبو الهدى، سمير الرفاعي، سعيد المفتي، فوزي الملقي.
والأمر لم يقتصر على موقع #رئيس_الحكومة، بل شمل كل #وظائف_الدولة_العليا، وكانوا جميعا يشعرون بمواطنتهم وأردنيتهم ولم يرفعوا شعارًا آخر، وكانت الهوية الوطنية الأردنية غير مفرقة ولا تقصي مواطنا واحدا، بل كانت أساسًا لمنعة الأردن الذي تمكنت نخبة من بنائه بشكل أثار الإعجاب نظرا لقلة الموارد وخطورة الوضع الجيوسياسي. وهذا بدوره يطرح سؤالا يتعلق بتوقيت اصرار البعض القليل على إعادة تعريف الهوية الوطنية الأردنية!
تنشط أقليةٌ نخبويةٌ مرتبطةٌ بمرجعيات عليا – أو هكذا تُوهم – بالهجوم على الهوية الوطنية تمهيدًا لتفكيكها وربما شيطنتها حتى تتمكن من فرض هوية جديدة يرفضها المجتمع الأردني. هذه الهوية الجديدة هي بدعة انتقدها بعض السياسيين الوازنين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الاسبق طاهر المصري، واصفا اياها بأنها تتسق مع المشروع الصهيوني. ويرى طاهر المصري بأن الحديث عن الهوية الجامعة يوحي وكأن هناك هويات متعددة متصارعة – أو قاتلة على رأي أمين معلوف – بحاجة إلى توحيد وهذا تزييف مبرمج للواقع له اسبابه ودوافعه ، في اقليم أصبح إسرائيليا بشكل مقلق.
أحد الوزراء اليساريين كتب في نقد طاهر المصري وعبدالرؤوف الروابدة ، بشكل يوحي بأنه -اي الكاتب – يٌمثل #مرجعيات_عليا، واختبأ خلف الأوراق النقاشية التي قال انها تحدثت عن الهوية الجامعة. والأمر لا يقتصر على هذه الشريحة من اليساريين التي اعتقدت بأن هناك فرصة سانحة للجلوس في حضن النظام وتحقيق مكاسب سياسية وغير سياسية، واستغلال حالة العداء للاسلاميين وتوظيفها لصالح هذا التيار الطامح، بل أن هناك تيارًا نخبويًا صغيرًا ايضا من أنصار الدولة المدنية بكافة تلاوينه يتنكرون لخطورة المشروع الصهيوني واستهدافه للأردن. وهم يعتبرون أن المشروع الصهيوني في تحويل الأردن إلى وطن بديل ما هو إلا فزاعة يُراد منها تعطيل الإصلاح! عن اي اصلاح يتحدثون ؟ يبدو ان هؤلاء يعتبرون ما جاء في توصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وما تبعه من تعديلات اقترحت على الدستور ، خطوات ايجابية في طريق الاصلاح السياسي !!!
ومع ذلك فالأمر ليس بهذ البساطة، فالمواطن الأردني بشكل عام يشكو من عنف بنيوي تمارسه الدولة، فهناك طبقة من مختلف الأصول تسيطر على مقاليد صنع القرار، وهي طبقة فاسدة ومفسدة ومسؤولة بشكل مباشر عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والسياسية وحتى القيمية، وكل ما يريده المواطن هو تفعيل مبادئ سيادة القانون و المحاسبة والمساءلة والعدالة وتكافؤ الفرص، كأساس للعلاقة بين المواطن والدولة، وليس تغيير الهوية الوطنية الأردنية لأسباب مبهمة وغامضة وفي توقيت مريب وغير برئ . وزاد من الطين بلة، أن المنادين بهوية جديدة هم أنفسهم الذين كانوا خلف الكواليس، في حكومة عمر الرزاز، يرسمون ملامح مشروعه “العقد الاجتماعي الجديد”، الذي لم يُكتب له بأن يرى النور ووضع على الرف مرة وللأبد، وهم أنفسهم الذي حملوا على العشائر ولا نقول العشائرية، فالاخيرة ليست امرا حميدًا كما هي الإقليمية والطائفية والعنصرية الخ. وقد وصل الحد بأحد الأكاديميين المعروفين بارتباطهم بالمشروع الأمريكي في الأردن بالتنكر لدور العشائر في بناء الدولة، وانضم بذلك لفكرة المستشرقين الغربيين التي تقلل من قيمة السكان الأصليين في الشرق.
لا أعرف دولة في العالم قامت بإعادة تعريف هويتها الوطنية بعد مئة عام من الولادة ، وبعد ان نجحت تلك المنظومة ببنيتها الهوياتية المتشكلة والمكتملة نسبيا ، في مواجهة وهزيمة كل ما اعترضهم من تحديات وعقبات وازمات وحروب ، وفي الحالة الأردنية فإن الهوية الوطنية ليست هوية شرق أردنية كما يوحي البعض، وإنما هوية ساهم ابناء الاردن في ترسيم وتحديد شكلها وملامحها ومضمونها على نحو باتت تستوعب كل المواطنين بمختلف تلاوينهم الثقافية والدينية والعرقية.
والمشكلة باختصار هي مشكلة النظام السياسي الذي يقوم بإذكاء بعضا من الصراعات الهوياتية، للإفلات من استحقاقات الإصلاح الحقيقي، وهذا ما يفسر الغاية من تأييد السلطات ورعايتهم لهذه المجموعة قليلة العدد ومحدودة التأثير.
اخيرا، لا يمكن قبول مكارثية التيار المدني التي تستند إلى التقليل من أهمية المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأردن ويسعى بالفعل إلى تحويل الأردن إلى وطن بديل، وما علينا إلا الرجوع إلى كتابات الإسرائيليين أصحاب القرار لنعرف حجم التهديد الذي يتعرض له الأردن.
في الختام، أرى أن طاهر المصري كان محقًا فيما ذهب إليه وأن الوزير الأسبق بسام حدادين صوب سهمًا طائشًا أيضا هذه المرة، والحق أننا كتبنا الكثير من المقالات التي رفضنا فيها محاولات العبث بالهوية الوطنية الأردنية التي لا تفرق بين المواطنين ولا تقصي أي مواطن، والتي تقف سدًا منيعًا أمام مخططات التجنيس والتفريط والتبعية والاتساق مع ما تريده إسرائيل من الأردن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى