دماءُ الوقت..

#دماءُ #الوقت..

خاص سواليف

مقال الخميس 12 – 8 – 2021

خوذة وسكّين وخاتم وبعض رصاصاتٍ وساعة يدٍ توقّفت عقاربها عند الواحدة والثلث بعد أن غرقت بدماء الوقت…هذا كل ما كان يملكه الشهيد الأردني في تل الذخيرة..
ارتقى كريماً صادقاً حقيقاً ، لا تعنيه كثيراً اتصالات آخر الليل ، ولا تهمّه التفاهمات الغامضة ، ولا يعرف ماذا يجري في غرف القيادة العربية المشتركة ، هو يعرف أن القدس أمامه ، وأن العقيدة خارج حسابات موازين القوى..كان مدّجّجاً بعروبته التي لا تنفذ ، خوذة لتحمي الرأس عند الارتطام او القنص ،والخاتم لا يغادر عنق الإصبع يقبّله كلما اشتاق للزوجة والأولاد ، وبعض رصاصاتٍ فهي عنده بحجم ترسانة ، أما السكّين فهي التي ستنتزع كبد كل من يقترب منه..وساعة بقيت تكّاتها دور في معصمه تحت التراب حتى سال دم الوقت فيها..
ربما كان لديه أطفال صغار يتابعون حرب ال67 من الراديو القديم على ضوء السراج، يطمئنون على تقدّم القوات العربية من خلال رسائل الإعلام العربي ، ربما كان يملك غرفة حجر وطين على شبّاكها دالية وأمام بابها “خابية ماء”..وفي حوش الدار بعض الدجاجات ، نساء الحي كنّ يجتمعن صباحاً عند زوجته الفتية ،يشددن من أزرها بأن زوجها البطل سيعود قريباً ولا داعي للقلق..يساعدنها في أعمال البيت ، نفش الصوف ،وخياطة المخدات والغناء بصوت خافت للصغير حتى ينام…
انتهت الحرب سريعاً، عاد بعض الجنود الى ذويهم ، لكن صاحب الساعة المتوقّفة عند الواحدة والثلث لم يعد، ذهب أهله الى مراكز التجنيد دون أن يحصلوا على جوابٍ شافٍ، استقلوا سيارة أجرة وذهبوا الى وحدته العسكرية التي كان يخدم بها يستقون أية أخبار عن ابنهم ، فكان الجواب لا أخبار..قال لهم عسكري يافع بشارب أسود كثيف: ربما هو في الطريق ، أو في أسوأ الأحوال قد وقع بالأسر، لكن لا تقلقوا ، اسمه ليس من ضمن كشف الشهداء لدينا..ثم أغلق الباب الحديدي ،وعاد الأهل يتأرجحون ما دون صدمة الموت وما فوق صدمة الأسر .. انتظروا الطريق المؤدية الى قريته طويلاً ،مرّت أسابيع ثقيلة ، كانت تمشي عقارب الساعة في شباك البيت الغربي ببطء شديد، عاد الأسرى ولم يعد.. أغلقت كشوفات الشهداء ولم يكن اسمه بينهم،مرت سنوات أخرى والنزف البطيء تسلل الى معصم الصبر ، فنزيف الوقت غطّى ميناء الأمل…مرّت عقود ، ماتت أمه التي بقيت تنتظره عند كل غروب، ورحلت زوجته الفتية الجميلة ..ولم يعد من الأسر بعد ، كما لم يظهر اسمه في كشف الشهداء حتى اللحظة..في طريق القطار الخفيف، في الأرض التي أُحتّلت بعد ارتقائه الى السماء..وجدوه متأهّباً للموت… خوذة وسكّين وخاتم وبعض رصاصاتٍ وساعة يدٍ توقّفت عقاربها عند الواحدة والثلث بعد أن غرقت بدماء الوقت.

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى