ليلة واحدة تكفي

ليلة واحدة تكفي

لم أكن أعرف أنّني سألتقي الشمس والقمر معاً، ولم يكن عادياً ذلك اليوم العاصف برياحه، وأمطاره، بحضوره الذي يعصف بقلبك، فيجعلك أسيراً، بل محبّاً للتفاصيل التي تمنحك الكثير من البهجة، وهي تحيط بملامح وجهه المكتنز بالحياة. فتراه يخترق وجدانك بإحساسه المعتّق بروح الفرح والترح في آنٍ واحد. فالفرح فطرته وصبغته، وما كان الأسى إلا متطفّلاً، عكّر عليه صفو حياته، وأثار صمت أنّاته. فاجتمع فيه الضدّان، فكان الأدب والنضال والموسيقى والإنسان، هكذا كان سالم النّحاس ” أبو يعرب “.
في تلك الليلة العاصفة، كانت دعوة الصّديق الشائك المرح المبدع، جمال القيسي أشدُّ عصفاً، عندما قدّمني لعمالقة الأدب الأردنيّ وصفوته، لأكون واحداً ممّن سيعودون القياديّ والأديب ” أبو يعرب ” في مرضه الذي كان سبباً قويّاً في تعرية من كانوا بحلّة ليست تزيّن إلا من هم على شاكلة الشّيطان والفراغ.
كم كنت محظوظاً بذلك اللقاء الذي جمعني بأسماءٍ سمعت بها، وقرأت لها، ولم أرها. فكنت بين “كاريزما” الملهم د. أحمد ماضي، والمتألق المتأنق الروائي جمال ناجي، وصانع الكلمة ومطوّعها د. موسى برهومة، وآخرون أحبّهم. كنّا جميعاً من أجل الحبّ في بيت القائد ” أبو يعرب ” فجلست بالقرب من جئنا لأجله، وعلى صدري وبين أحضاني آلة العود التي سحر أوتارها إحساسه، فتغنّت له بالحريّة والفرح الأخير.
تحدّث الجميع، فكان الهرج والمرج، وكانت الفائدة. ثمّ ساد الصمت، وكأنّه تأشيرة البدءِ بالموسيقى، موسيقى روحه العذبة، النقيّة، الشفّافة، وكأنّه يدعوني إلى ذلك، وكأنّه يدعوني إليه. احتضنت ” العود ” وبدأت بالعزف أترجم على أوتاره إحساسي بريشة هاوٍ، ليس بمحترف، أغنية ” أسهر وانشغل أنا ” للكبيرة نجاة الصّغيرة. وكنت أرقب أصابع يديه وهي تضرب مداعبة مُتكأ كرسيّه المتحرّك، وكأنّ شفتاه تهمس في أذن محبوبته، وكأنّك ترى في عينيه الحياة.
كيف أنسى رغبته، ودفقات شعوره الموسيقيّة، التي نالت من إحساسه، عندما أشار إليّ أنْ استمرّ في العزف والغناء. وطلب أنْ أغنّي لمحمد عبد الوهاب ” يا وبور قلي رايح على فين ” وكأنّه يدرك إلى أين سيرحل و ” رايح على فين “.
فغنّى بنهم، وروحه العذبة أجبرت الجميع على الغناء، فغنينا جميعاً لسالم النّحاس، القائد، المناضل، الشّاعر، الروائي، القاص، المسرحيّ، الأب، الإنسان. تغنينا بالحريّة لأنّه يحبّها، للصداقة لأنّها أغلى من الحب ومن الدّول النامية.
كم كنت في تلك الليلة في قمّة تألقي، وكم كان عالياً مزاجي، تلك الليلة. فعزفت وتغنيّت بأبي يعرب، الذي أعادني إلى جسدي وروحي، الذي جعلني أحبّ الحياة، فغنيت معه الحب، والفرح، والنضال، وغنينا الرحيل جميعاً.
انفضّ المجلس أخيراً، ولم تغادر روحي طاقته وسحره بعد. غادرنا المكان والإنسان، فأدركت بعدها أنّ ليلة واحدة تكفي لأنْ تعرف سالم النّحّاس، لأنْ تحبّه وتعشق الحياة، لأنْ يحبّك، ليلة واحدة تكفي لأنْ تنحني أمام ظاهرة استثنائيّة اسمها سالم النحاس.

فتحي الضمور

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى