حيرةٌ في العِشق

حيرةٌ في العِشق
سالم محادين

قبل قُرابة نصف قرن وتحديدًا في ربيعِ العام 1996 كنت أجلسُ مع أبي وأمي رحمهما الله فوق سطحِ منزلِنا في الزرقاء فخاطبَ أبي أمي قائلًا : ( أنا يا مي طلعت من الكرك بس عشان الوظيفة وهسا تقاعدت ولازم نرجع نعمر ونستقر في القرية! ) لم ألحظ لدى أمي رضىً عن الأمرِ ولكنها أيضًا لم تُبدِ استياءً كافيًا تجاهه، بينما أصابَتني الدَّهشةُ وأنا ابن الزرقاء الذي كنتُ أعتقدُ بأنَّ الكرك مَسقَط راسي الأصيل ليست إلا مدينة في أقصى الجنوبِّ يتكفلُ بُعدها في قتلِ أحلامي اليافعةِ واندفاعي الظَّاهر للعيانِ حينذاك!

عِدَّة أشهرٍ فقط كانت المُدة التي اكتملَ البناءُ فيها وبدأنا نحزمُ أمتعتنا لنشُدَّ الرِّحال إلى ( عزرا ) حتى أنني سبقتُ العائلةَ في الرحيلِ لابتداءِ موسمِ الدِّراسةِ وقتها وبالفعل كان أن بدأتُ دراستي في الصفِّ الأول ثانوي في مدرسة زيد بن حارثة في منطقة العدنانية!

كنتُ أكثرَ إخوتي ضَجرًا من السَّكنِ في الكرك وشَهِدَت الأشهر الأولى دومًا مُناوشات بيني وبين أمي، التي ضاقت ذرعًا من تَذُمري الذي كنتُ أعبر عنه أحيانًا بالامتناعِ عن الطَّعام والشَّراب، أستلقي في غُرفتي وسطَ حالةٍ من الكآبة فلم أملكُ حينها أيَّ مبررٍ أو سببٍ مقنعٍ للعيشِ بعيدًا عن الزرقاء وعطرها الذي كان يُنعشني ورُبما ما زال.

مقالات ذات صلة

مرَّت الأيامُ والأعوام بين يُسرٍ وعُسر وبدأَت الكركُ تمنحني من عطفِها المُتعارَف عليه حتى أنني كنتُ أظنُ أنها تُعاملني بخصوصيةٍ لإحساسِها الفطريِّ بقلةِ تَعلُقي فيها إلى أن تَمَكَنَت مني وأمسيتُ الشابَّ الكركي الحائر في توزيع حنانهِ الجُغرافي ما بين طفولةٍ ومُراهقةٍ زرقاويةٍ من جهة ونُضجٍ كركيٍ بدأ يرسم معالمَ واضحةً على تفكيري وحتى اللهجة من جهةٍ أخرى.

سأكون قاسيًا بحقِّ نفسي وبحقِّ ما توالى من أحداثٍ لو ظننتُ أن ( زعلي ) حينها ليس مُبررًا فالأيامُ أثبتت لي وتُثبتُ دومًا بأنّ للمُدنِ الكبيرةِ والعاصمةِ نصيبَ الأسدِّ من فُرَصِ الحياة وحظوظها ومجالات التَّقَدمِّ والترقي في الوقتِ الذي تعاني معهُ الأطراف من تهميشٍ ومُعاناةٍ يفرضُها الواقعُ المُعاش، ولنعترف أيضًا بأنّ الرزقَ يُطلَبُ عند تزاحمِ الأقدام و أنَّ بعض الأحلام لا تحيا بِكُلِّ أسفٍ إلا بعيدًا عن مدى جَنوبيٍ اعتنى بالوردِ في طفولتهِ البريئة وآمنَ بطموحاتٍ شَتَّى ورَسَمَ لنفسهِ من تفاصيل الحياة ما لا يُحتَمَل، الجنوبيُّ الذي ظَلَّ بمرورِ الأعوام يُغازلُ الكُحلَ في عيني عَمَّانيةٍ أقنعهُ عطرها حين شقاوةٍ أنَّ الجمال فقط هُناك، فأخبرها ذات نصٍ بأنَّ في الكركِ كذلكَ وفي الجَنوبِ جَمالًا أكبر لكنَّه وَسَطَ أحلامٍ شحيحة.

#سالم محادين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى