حديث الحريق / عبدالرحيم الزعبي

حديث الحريق

شب الحريق في الأراضي المحتلة وظلت مساحته تتمدد على مدار خمسة أيام، ومع تمدد مساحة الحريق تمددت مساحات الحديث، وتداول البوستات على مواقع السوشيال ميديا، كانت ردة الفعل الطبيعية والعفوية هي الفرحة والشماتة بالعدو في مصيبته، ولعلها هي ردة الفعل الأجمل رغم ما تعكسه من يأس وإحباط.

وبعد انتشار ردة الفعل الأولى طاب لبعضهم أن يتذاكى ويفلسف الأمور! فبدأت تنهال على مواقع السوشيال ميديا بوستات وصف مطلقوها الناس بالجهالة والتخلف! ولم يعجب مطلقو هذه البوستات أن نربط بين منع الأذان في القدس وبين اندلاع الحريق بعلاقة السبب والنتيجة! وقد تم تمييز فئتين رئيسيتين اعترضتا على الفرحة والشماتة: أولاهما تحب أن تنتسب إلى المنطق، وثانيتهما تحب أن تنتسب إلى حالة التدين العصري المعتدل.

أما الفئة الأولى فقد صبت جام غضبها على الدين الذي حبس تفكيرنا الجمعي في زنزانة الخرافة! وتتلخص الفكرة الرئيسية في اعتراضهم بما يلي: «إذا كان الله قد انتقم منهم بسبب منع الأذان، فلماذا لم ينتقم منهم على ذبح أهلنا في غزة أو على ما حدث يوم النكبة أو، أو، أو، والقائمة تطول». ولأن هذة الفئة تدعي أن التفكير السليم المطابق للمنطق هو مرجعيتها، فمن باب أولى أن نحتكم وإياهم إلى المنطق ليفصل بين اعتراضهم وبين فرحتنا العفوية.

من بديهيات المنطق ما يلي:

1 – إن وقوع حدثين على التعاقب لا يقتضي بالضرورة ارتباطهما بعلاقة السبب والنتيجة، غير أنه لا ينفي عنهما هذا الارتباط، هكذا تتوازن الكفتان، وهكذا يستوي من ربط بين منع الأذان والحريق مع من رفض هذا الربط، وبعبارة أدق فإن الطرفين قد ابتعدا عن المنطق بالمسافة نفسها، ولكن باتجاهين متعاكسين!
2 – إذا ارتبط حدثان بعلاقة السبب والنتيجة، فوقع الحدث الثاني نتيجة للأول، فذلك لا يقتضي بالضرورة أن يقع الحدث الثاني دائمًا بعد وقوع أي حدث مشابه للأول، وبعبارة أخرى، لو افترضنا أن هناك علاقة سبب ونتيجة بين منع الأذان واشتعال الحريق، فذلك لا يقتضي بالضرورة أن يشتعل حريق عند الكيان المحتل كلما تجبر وارتكب مجزرة بحق شعبنا الصامد.
وقد أعلنت هذة الفئة عن استعدادها للإيمان بعلاقة السبب والنتيجة بين منع الأذان والحريق، لو قدر أن يقع حريق بعد كل ظلم يرتكبه العدو، وبذلك فقد وقعوا في خرق المنطق مرتين، بينما وقع جمهور الفرحين بخرقه مرة واحدة فقط، أي أنهم أكثر انحرافـًا عن المنطق من جمهور الفرحين.

هنا ينتهي الكلام مع هذة الفئة بغية الانتقال إلى فئة أخرى سخرت من جمهور الفرحين، وهي فئة المتدينين العصريين، والحقيقة أن حال هذة الفئة غريب جدًا! فقد ساقت محاججة مطابقة لمحاججة سابقتها! وقد تلخص اعتراضهم في الفكرة التالية: «ما حدث كارثة طبيعية، والكوارث الطبيعية لا تحابي أحدًا، ولو كان انتقامًا إلهيًا لانتقم الله منهم على مدار سبعة عقود، فلا تنتظروا نصرًا سماويًا جاهزًا دون جهد وعمل وكد».

إن العبارة الأخيرة في المحاججة جديرة بالتقدير، فالنصر لا يأتي دون كد وعمل وجهد، لكن المحاججة ليست محاججة مؤمنين، والنقاط التالية تبين مدى انحرافها عن الإيمان:

1- نحن نقرأ القرآن الكريم ونعلم أنه تعالى «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون»، فهو تعالى من الممكن أن يرسل الحريق على الكيان المحتل كغضب سماوي على منع الأذان، وليس لنا أن نسأل ربنا: «لماذا غضبت عليهم حين منعوا الأذان ولم تغضب عليهم حين ذبحوا أهلنا في غزة ؟!»، فهو الإله الذي يسير الكون بمقتضى حكمته، تلك الحكمة التي قد يبرق لنا بما يعيننا على فهمها بشكل جزئي، وقد يخفيها عنا بشكل كلي، إنه رب وهو خالق الكون بما فيه من مادة ونواميس، وهو الذي يسير هذه النواميس طارحة غضبه تارة وحاملة رحماته تارة أخرى.
2 – إن الله سبحانه قد يرسل عذابه بما يخرج عن نواميس الكون تارة، وقد يشاء أن يرسله بما لا يخرج عن نواميس الكون تارة أخرى، فلا يصح الفصل التام بين الكوارث الطبيعية وغضب الخالق، كذلك لا يصح الربط الدائم الجازم بينهما.
جميل أن نستحث الناس على العمل وعدم انتظار نصر سماوي جاهز، ولكن ليس من المقبول التلاعب بالعقيدة في سبيل ذلك، فالغاية لا تبرر الوسيلة، وختامًا أقول للفئتين: ارفعوا أيديكم عن عباد الله وخلوا بينهم وبين رغبتهم في الشماتة بعدوهم.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى