حادثة الكونغرس.. لماذا هي البداية في تفكيك الدولة ؟

حادثة الكونغرس.. لماذا هي البداية في تفكيك الدولة.. ألم يبط ترامب الدمل الأمريكي ما هي الاحتمالات المقبلة؟
فؤاد البطاينة

لم تَقُم الولايات المتحد الأمريكية كدولة على أساس وطني أو قومي بشعب أصيل أو أصلي، بل على أساس إستعماري في مستعمرة أقامها البيض الأوروبيون في المحصلة على مساحة القارة، وفتحوها فيما بعد للمهاجرين من أنحاء الأرض. واختطت الدولة الإستعمارية النظام الديمقراطي في دستورها دون تخوف لأن شعبها الجديد الذي شكل أغلبيته السكانية بالغزو والتطهير العرقي كان متجانسا لحد كبير، ومصالحه متجانسة في ارتباطها بالفكرة الاستعمارية، فديمقراطيتهم صُنعت لهم. ومع مرور ثلاثة قرون على الولايات المتحدة وهي على نفس النظام المتزاوج مع رأس المال المتنامي بالمبدأ الإستعماري، ازدادت الهجرة للدولة القارة، وتعاظم وجود القوميات الملونة وتحجمت بالمقابل زيادة العرق الأبيض وأخذت تتغير الخارطة الديمغرافية شيئا فشيئاً.
إلّا أن ما زاد الطين بلة في الحالة الأمريكية، أنه خلال القرن الأخير ترسخت على الصعيد العالمي مفاهيم دولية ومعاهدات ومبادئ راسحة، وتطور معها القانون الدولي وأصبحت جزءاً منه. وكلها باتجاه التقنينات التي تؤكد على حقوق الإنسان والمواطنية والعدالة والمساواة والحرية. وما يهمنا منها لغايات هذا المقال هو مبدأ حق تقرير المصير للشعوب. ونتذكر في هذا خلال القرن الأخير نشوء دول جديدة على أساسه من ضلع دول أخرى وتفكك دول وانضمام أجزاء منها لدول أخرى وبعضها من قارة لأخرى مثل جزر الفوكلاند مثلاً. وكانت الولايات المتحدة تدعم هذا التوجه. وهو مبدأ في الأساس صحيح ووضع في الأصل لمقاومة الإستعمار وتفعيل حقوق الشعوب لمصيرها على ترابها الوطني. إلا أن هذا المبدأ قفز ليتعدى على مبدأ حق السيادة على الأرض، وليصبح ساري المفعول في ارتباطه بحقوق الجنسية والمواطنة وبالأهداف السياسية الاستعمارية أحياناً كثيرة.
الولايات المتحدة كدولة ليست استثناء من هذا المبدأ. فتعاظم المهاجرين اليها واكتسابهم حق الجنسية والمواطنة غيَّر وما زال يغير الديمغرافيا الأمريكية باتجاه سياسي ليس في صالح استمرار حكم العنصر الأوروبي الأبيض الذي يعتبر نفسه السيد والمواطن الأصيل المميز وصاحب الدولة والسلطة التقليدية وسياستها في ظل الدستور والديمقراطية القائمة. وهذا يعني أن هذا العنصر الأبيض أصبح يتوقع خطر فقدان كل هذا بذات الديمقراطية في حالة أن أصبح أقلية مع استمرار تزايد القوميات الملونة. فالانتخابات الشعبية كواحدة من أهم ركائز الديمقراطية والتي تحدد هوية من يحكم الدولة وسياستها ومصيرها لم تعد آمنة له ولا لقادة الفكر الإمبريالي منه في الحزبين، ولا لثقافته السائدة في مجتمع متسم بثقافات أخرى تتوسع وتهدد ثقافته، ومنها الثقافة السياسية والإيديولوجية. وهذا من شأنه أن يكون مفتاحاً لصراع لا ينتهي إلا بانهيار الولايات المتحدة وتفككها وإعادة هيكلتها بما يشبه ما حدث في الإتحاد السوفييتي ولكن بطريقة عنيفة على الأغلب. وقد تنبه البيض منذ سنين للتغيير الديمغرافي وخطره وفاجأوا العالم في إنجاح ترامب ولم يفاجئوه في سلوك غضبتهم على خسارته.
وهذا ينقلنا لقيادات الحزبين الرئيسين. فهما مختلفتان في النظرية والممارسة بعلاقتيهما بالمهاجرين الملونين، ومتفقتان على السياسة العامة المطلوبة لأمريكا لا سيما اتجاه الفكرة الإمبريالية، وإزاء الصهيونية وكيانها المحتل لفلسطين. فهناك تحالف غير مكتوب بين الديمقراطيون والقوميات الملونة المهاجرة من أسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، قوامها الصوت الإنتخابي للوصول الى السلطة في عملية تبادلها، ويميل الديمقراطيون لتجنيسهم لأغراض انتخابية. بينما لا يحتفظ الجمهوريون بود أو ثقة بهؤلاء المهاجرين ويضيقون عليهم لحد ما. وإذا ما استمرت المعادلة السكانية التي تتكاثر فيها القوميات الوافدة على حساب البيض الأوروبيين وهو المرجح فسيؤمن هذا حكم الديمقراطيين لعقود قادمه ولكنه سيعمق عدم الاستقرار السياسي داخل الحزب الديمقراطي نفسه سريعاً حيث أن فكرة العنصر الابيض ورأس المال موجودة أيضا في قيادته وستتوسع بنفس الوقت بذور الحرب الأهلية.
ولذلك فإن الحدث الأخير في اقتحام مؤيدي ترامب العنصريين لمؤسسة الديمقراطية الأمريكية يُعتبر عملاً اختراقيا لمجمل النظام الأمريكي. ولا يمكن أن تؤخذ الحادثة في سياق معزول عن هدف استراتيجي أعمق ولا أن تُختصر بعمل عابر مدفوع الأجر، أو مجرد تعبير عن تأييد مرشح على أخر. بل هو عمل مبني على قناعة الملايين ممن يحملون فكرة المُقتحمين العنصرية ورغبتهم بالتغيير باستخدام العنف والاستقواء على النظام ودستوره. وإن تمسكهم بترامب هو تمسك بالفكرة وبمواجهة الديمقراطية التي تقضم من تسيدهم العنصري والوطني على الدولة والسياسة والقرار وتهدده، وتعبيرا عملياً عن تخوفهم ورفضهم لشراكة القوميات الأخرى
أما عملية الإقتحام بالنسبة الى ترامب منظمها ومن دفع بها، فإنما هي فكرة متأخرة كانت خيار الصفر له. ولكنها شكلت محاولة لتأسيس فكرة الانقلاب أو الثورة على الدستور والديمقراطية الأمريكية بهدف تقنين أو تأمين تسيد العرق الأبيض والفكرة الإستعمارية، وباعتقادي أنه كان متأكداً من الفوز بالإنتخابات وإلا لفعل الكثير في عامه الأخير وأسس لبقائه في السلطة ولتغييرات كبيرة، ولم يحسب جيداً ثقل القوميات الأخرى الإنتخابي بعد أن استفزها وهدد وجودها في الولايات المتحدة. ولو كان بمقدوره عندما تفاجأ بخسارته متأخراً إحداث انقلاب عسكري وفوضى عارمة لفعل، كما لو كان بإمكانه شن حرب مجنونة على ايران لخلط الأوراق لفعل. إلّا أن العمل بهذا الاتجاه الإنقلابي على الواقع الذي يسير باتجاه فقدان الأبيض المستعمر لأغلبيته السكانية وسلطته سيستمر. وله مؤيدوه من القياديين ومن هنا سيفشلون في محاولة عزله للإبقاء على فكرته للبناء عليها
ولذلك فالحادثة ليست النهاية بل هي البداية، وفتحٌ للدمل وكسر لا التئام له لأيقونة زجاجية، ومن المتوقع أن نشهد عدم استقر داخلي، وانقسام بالرأي حاد في داخل الحزبين وحراكا شعبياً سياسيا استقطابيا في الولايات المتحدة في عهد بايدن وما بعده واحتقانا واختراقات أمنية وربما تشكيل أحزاب جديدة، وتنظيمات بيضاء ارهابية ستجد الممولين والداعمين. وكل هذا مسامير في نعش وحدة الدولة الأمريكية باتجاه تفككها لدول، وذهاب ريحها سياسيا وعسكريا واقتصادياً وهو الأهم، وفقدان زعامتها للعالم. وبالمقابل لن نشهد وقتاً ولا مجالاً لمحاولات بناءة جادة لرأب الصدع وتمتين لحمة البلاد. بل سنشهد تراجعا مستمراً في اقتصاد أمريكا وفي دولارها وتراجعاً في تأثيرها السياسي. وقد نشهد انقسامات في قيادات الجيش. ولعل هناك من يقول بأن في هذا مبالغة مدفوعة بالتمني، ربما، لكنه تحليل قائم على معطياته التي يقابلها معطيات أخرى مضادة لا ننكرها. ويبقى الاحتمال الأخر قائماً ولكنه لن يدوم طويلاً
وفي هذه العجالة ماذا عن “إسرائيل ” والاحتلال. هذا الكيان الذي يجسد الصهيونية لم يغفل يوما عن البحث عن بديل لأمريكا وقد تناولت هذا سابقاً. وكان خياره وما زال هو التوجه للصين. وقد تمكن هذا الكيان رغم التململ الأمريكي من إقامة علاقات ومؤسسات ثقافية معها وشبكة علاقات ومشاريع اقتصادية ضخمة، لبعضها طابع غير حميد يؤسس للتغلغل الصهيوني في الوطن العربي. والصين تنظر لهذا التعاون بمنظار القط الكبير للفأر الصغير واستغلاله في لعبة الوصول للقمة. بينما الصهيونية تنظر للصين كخيار بديل داعم وضامن لها مستقبلاً. إلّا أن أي تضعضع يدب في أمريكا سيدب مثله بالمشروع الصهيو -غربي في منطقتنا ويدب في الأنظمة العربية العميلة و الحليفة أو الوكيلة. وسينعكس هذا إيجابياً على حركة النهوض العربي في كل قطر وعلى القضية الفلسطينية لا سيما في إحياء وبناء وتعزيز مقاومتها…
كاتب وباحث عربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى