جمعوا الماء والتراب مكبرين باكين.. حين أطفأ المقدسيون حريق الأقصى بدموعهم

سواليف
“الأقصى احترق، الأقصى احترق”.. على هذه النداءات استيقظ الشيخ داود عطا الله صباح يوم 21 أغسطس/آب 1969، وخرج فزعا راكضا من بيته في سلوان نحو المسجد الأقصى، دخل المسجد من باب المغاربة، وبدأ بتمرير الماء والتراب لإطفاء الحريق الذي اشتعل داخل المصلى القبلي وأتى على ثُلثه.

في ذلك اليوم كان يخطط عطا الله للتوجه إلى الأقصى لأداء مهمته كقارئ للقرآن فيه، لكن مهمته تحولت إلى إطفاء الحريق ومعاونة مئات الفلسطينيين الذين أغلقوا محالهم في البلدة القديمة وجلبوا الماء من بيوتهم، بعد أن قطع الاحتلال الماء عن المسجد الأقصى وعرقل وصول طواقم الإطفاء التي انطلقت من رام الله والخليل وبيت لحم.

“كنّا كالمجانين، نسكب الماء ونبكي”، قالها عطا الله للجزيرة نت ثم غيّب البكاء صوته، استجمع قواه وأكمل “ذكرتموني بيوم مشؤوم، يوم حُرق الأقصى وترك المسلمون دينهم، وا إسلاماه”، ثم عاد يبكي.

مرّ على ذكرى الحريق 51 عاما، لكن عطا الله يبكيها حتى اليوم بعد أن بلغ 93 عاما، فقد كان رجلا واعيا حينها في الأربعين من عمره وحُفرت المشاهد والآلام في وجدانه، لكنه رغم ذلك يجلس اليوم في مكان الحريق ويقرأ القرآن كما اعتاد منذ 68 عاما.

عمل غير فردي!
يوم الحريق، وبدل أن يقصد الأستاذ عكرمة صبري المسجد الأقصى للتدريس في ثانوية الأقصى الشرعية، قصده لإطفاء الحريق، كان حينها في الثلاثين من عمره وهرع من بيته بوادي الجوز ركضا ومن حوله الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وحين وصل المسجد لم يجد وقتا ليلتقط أنفاسه بعد أن رأى لهيبا قويا ينبعث من المصلى القبلي.

من يد ليد نقل صبري التراب والماء مع جموع الفلسطينيين، الذين كانوا يهللون ويكبرون ويبكون، وترتفع أصواتهم وتتسارع دقات قلوبهم كلما ازداد وهج اللهب، حيث أتت النيران على سقف المصلى الجنوبي المصنوع من الخشب والرصاص، وأحرقت الجهة الشرقية بالكامل، بالإضافة إلى القبة، ومنبر نور الدين زنكي أو صلاح الدين الأيوبي، والمحراب المجاور له، والنوافذ والسجاد والمصاحف والخزائن.

حينها ادعى الاحتلال الإسرائيلي أن تماسا كهربائيا أحدث الحريق، لكن تبين لاحقا أن رجلا أسترالي الجنسية يدعى مايكل روهان دبّر الحريق وأحدثه عبر مواد شديدة الاشتعال، يقول صبري للجزيرة نت إنها لا تتوفر في الأسواق ولا تقتنيها إلا الدول، اعتقل الاحتلال روهان وادعى أنه مختل عقليا ونفاه إلى بلاده ثم أغلق الملف بلا رجعة.

الخطبة الأولى بعد الحريق
كان الحريق يوم الخميس، فلم تقم خطبة الجمعة في المصلى القبلي، لكن الخطبة استؤنفت في الجمعة التالية وتحديدا في 29 أغسطس/آب، ويقول صبري إن والده خطيب الأقصى الشيخ سعيد صبري ألقى الخطبة حينها قائما على الأرض، لاحتراق المنبر، واختلط صوته بنحيب المصلين المكلومين وسط السواد والبناء المتهالك.

اليوم يبلغ الشيخ عكرمة صبري 81 عاما، وهو إمام وخطيب في المسجد الأقصى منذ سنوات طويلة، ويقول للجزيرة نت إن والده كان آخر من خطب على منبر زنكي قبل إحراقه، أما هو “الابن فكان أول من خطب على المنبر الجديد الذي نُصب مكان المحترق عام 2007 بتوصية من المملكة الأردنية الهاشمية”.

الحريق أتى على منبر نور الدين زنكي والمحراب المجاور له والنوافذ والسجاد والمصاحف والخزائن (الجزيرة نت)
كان الشيخ يوسف أبو سنينة يوم الحريق في الـ11 من عمره، ويذكر جيدا كيف ركض مع أهله وجيرانه من البلدة القديمة نحو الأقصى وأسهم في إطفاء الحريق الذي يقول إنه لم يخمد حتى اليوم، فوضعه اليوم أصعب بكثير من وضعه قبل 51 عاما.

أيقن أبو سنينة أن أحد أهداف إحراق منبر الأقصى كان إسكات كلمة الحق، فلم يكتفِ بإخماد الحريق في صغره، بل عمل حتى عُيّن إماما في الأقصى عام 1980، ثم خطيبا عام 1990، وما زال حتى اليوم يعتلي منبر الأقصى، رغم التضييقات الإسرائيلية التي يتعرض لها هو ونظراؤه.

اعلان
يقول أبو سنينة للجزيرة نت “مهمتي صعبة جدا، يجب أن أقول كلمة الحق مهما كانت الظروف، فالاحتلال يسكت جميع الأصوات بالقوة، كنا سبعة خطباء وأمسينا اليوم ثلاثة بعد إبعاد الاحتلال لبقيتنا، يجب أن نحمي المنبر من الإحراق المعنوي لا المادي فقط، بإدامة كلمة الحق منه”.

لم يخمد حتى اليوم
لم يعاصر الشاب حمزة قطينة (29عاما) من البلدة القديمة بالقدس حدث إحراق المصلى القبلي، ولكن الذكرى ظلت حاضرة في ذهنه عبر شهادات أهله ومعارفه، والروايات التي تتناقلها الأجيال في القدس.

وبحكم عمل قطينة كمحام مقدسيّ، يعاين عن كثب انتهاكات الاحتلال بحق الأقصى والقدس وأهلهما، ويقول للجزيرة نت إن مشاهد الحريق تتكرر يوميا بأشكال مختلفة من خلال الاقتحامات والتضييقات والتحكم في الأبواب وإبعاد المصلين.

ويختم “لا أبالغ إن قلت إن حرق منزلي أهون عليّ من حرق المسجد الأقصى، فالمساس به خط أحمر لا تهاون فيه، وحمايته أمر فطريّ دينيّ، فهو أعز ما نملك، نرخص كل ثمين دفاعا عنه”.

ووقع الحريق في المسجد القبلي المتضمن مسجد الجمعة والمسجد الجنوبي بالمسجد الأقصى المبارك، والتهمت الحرائق 1500 متر مربع، وهو ما يمثل أكثر من ثلث مساحة المسجد القبلي البالغة 4400 متر مربع، وشملت الحرائق: منبر نور الدين زنكي، ومسجد عمر، ومحراب زكريا، والمحراب الرئيسي، والقبة الخشبية الداخلية والزخرفة الجصية الملون عليها، والجدار الجنوبي والرخام الداخلي كاملا، وخمسين نافذة من الجبس والزجاج الملون، وعمودين رئيسين مع القوس الحامل لقبة الجامع القبلي، والسجاد المفروش على أرضية الجامع.

وقد قام بهذا الحريق أحد المجرمين يدعى دنيس مايكل روهان، وهو استرالي الجنسية، نصراني الديانة بروتستانتي المذهب صهيوني الاعتقاد؛ حيث تعاون مع الكيان الصهيوني على إحراق المسجد القبلي من خلال استخدام مادة لزجة سريعة الاشتعال، وقام برشها على المنبر كما قام آخرون بإشعال النيران في الجهة الجنوبية الغربية من الجامع القبلي.

وهناك أدلة مادية على تواطؤ الكيان الصهيوني في هذا الحريق، أذكر من ذلك ما أورده د. جمال عبد السلام، رئيس لجنة القدس سابقا باتحاد الأطباء العرب، في رسالة له بالأمس نشرها على صفحته:

أولا: وصول سيارات الإطفاء متأخرة دون استخدام نقطة ماء واحدة لإطفاء الأماكن المحروقة.

ثانيا: قطع المياه عن منطقة المسجد الأقصى بالكامل.

اعلان
ثالثا: إذاعة نبأ الحريق بعد حوالي ساعة وثلث من نشوبه.

رابعا: عرقلة تحرك الجماهير المسلمة نحو المسجد من قوات الاحتلال.

خامسا: حصار المدينة لمنع تدفق أهالي الضفة الغربية.

سادسا: إطلاق الأعيرة النارية في الهواء لتفريق الجماهير.

سابعا: تبرئ المجرم مايكل روهان من الجريمة والزعم بأنه مصاب بمرض عقلي ليخرج من السجن ويرحل إلى بلده استراليا بعد ذلك.

المصدر
الجزيرة نت
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى