التاريخ.. استلهام نهضة أم تخلف / د. هاشم غرايبه

التاريخ .. استلهام نهضة أم تخلف

عندما تُستذكر أمجاد التاريخ، دائما ما يحتدم الجدل بين من يعتبر ذلك استنهاضا للهمة ودافعا الى محاكاتها، ومن يعتبر ذلك تغنيا بها وتسرية للنفس وقعود عن العمل.
وجهة نظر كل من الفريقين وجيهة، لأن النتيجة مرتبطة بالمقصد من وراء ذلك الإستذكار أو التناسي أولاً، وبالتوظيف تاليا.
سأتناول فيما يلي مختلف الجوانب المتقاطعة، لكي نصل في النتيجة متى يلزم الإستذكار لتجاوز الأزمة الواقعة فيها أمتنا، ومتى يكون التناسي وطي الماضي باعثا على التقدم والنهوض.
في تاريخ كل الشعوب والأمم نقاط مضيئة وحقب كان فيها ما يبعث على الفخر، فلو أخذنا الإغريق مثالا على القدماء، لوجدنا أنهم سادوا العالم خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد ، وبلغت الحضارة الإغريقية أوج عظمتها و ازدهارها قبل ذلك، وظهر منها عظماء أثروا الحضارة العالمية بالديمقراطيّة والفنون والعلوم على اختلافها مثل هيرودوت وهوميروس وأفلاطون وأرسطو، وأبقراط .
ومثل كل الحضارات انطفأت شعلتها وزال مجدها بعد أن انقسمت على نفسها بعد موت الإسكندر المقدوني عام 323 ق.م. وتنازع خلفاؤه، حتى جاء الرومان ليقضوا عليها عسكريا عام 146 ق.م.، وليرثوا حضارتها.
ومنذئذ لم تقم لها قائمة وانكمشت تلك الإمبراطورية لتصبح دولة اليونان الفقيرة التي تعتاش على مساعدات الأوروبيين.
لو بحثنا في سبب ذلك الإنهزام، من الصعب أن نصدق أنه يعود الى تخلف الشعب أو تواضع إمكانياته، فمن تلك الأمة خرج العظماء في كل صنوف العلم والفلسفة والأدب، لا يمكن أن يكون السبب إلا بالإنقطاع عن تاريخهم والتحاقهم بحضارة الغزاة الرومان.
ثم تكرر الأمر فورثت الممالك الأوروبية حضارة الرومان وفعلت بالطليان الشيء عينه، فقطعتهم أيضا تاريخيا عن الحضارة الرومانية العريقة وليلتحقوا بالأوروبية طمعا في التقدم، لكن إيطاليا بقيت دولة تصارع على مجرد البقاء.
ومثال على الحضارات الحديثة الحضارة الأمريكية، فقد تمكنت من إحكام الخناق على أوروبا عسكريا، وربما إن تمكنت من خنقها اقتصاديا سيتكرر الحدث ذاته، وترث الحضارة الأوروبية فتصبغها بطابعها.
نخلص مما سبق أنه لم يكن ممكنا في صراع الأمم الحضاري حسمه بالتفوق العلمي، بل كانت الشروخ تبدأ في التنازع والتفرقة داخليا ثم تحسم بسقوطها بالقوة العسكرية للخصم، لكن السبب الرئيس لعدم استعادة المبادرة ونهضة أية أمة من جديد كان الإنقطاع عن التاريخ والإستسلام للأمر الواقع.
فالإغريق حرموا من البناء على منجزات أسلافهم وعاشوا حياتهم وفق المنهج الروماني، فلما انقطعوا عن موروثهم الحضاري أصبحوا يعيشون على هامش الحضارات الأخرى.
الحضارة الإسلامية كان انهيارها وفق التفسير ذاته، رغم اختلافها المنهجي عن كل الحضارات الأخرى، فهي ليست مجرد علوم البيروني وابن الهيثم ولا فلسفات الغزالي وابن رشد فقط، بل تنفرد بأنها تصوغ الحياة البشرية بجميع أوجهها بمنهج متكامل، لذلك فهي ليست كتلك التي سادت ثم بادت لأن حضارة أخرى استولت على ميراثها وغيرت هويته، فميراثها باقٍ لا يمكن لأية حضارة منتصرة أن تبدل فيه شيئا، بل على العكس فقد كانت الحضارات الغازية هي التي تصطبغ بالإسلام وتذوب فيه كالمغول والتتار الذين أصبحوا مسلمين الى اليوم.
من هنا نفهم إصرار أعداء الإسلام على إبعاد الناس عن التاريخ المجيد، فهو خوفا من استعادة التواصل مرة أخرى.. وليس لأنه تغنٍّ بأمجاد بائدة.
لكن طي صفحة الماضي تصبح ضرورة للتقدم إن كانت لتناسي أحداث أليمة أدت الى تمزق الأمة، فالذين يستعيدون أحداثا مثل معركة صفين أو مأساة كربلاء، لا يهدفون قطعا إلا لشرذمة الأمة ودوام تمزقها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى