قمح وزيتون / د . خالد غرايبة

قمح وزيتون
لقد اعتاد جدي لأبي كغيره من مالكي الارض في قريتنا زراعة القمح في معظم ارضه حتى بداية الثمانينيات. كان معظم المزارعين يفضلون زراعة القمح لملاءمة أرض القرية (والتي هي جزء من سهل حوران) لزراعته ولأن زراعة القمح كانت مجدية بسبب دعم الدولة لزراعته في تلك الفترة، فقد كانت تشتريه من المزارعين بأسعار عالية ٍ نسبيا.

اعتقد انه حتى نهاية السبعينيات، كانت سياسة الدولة مستمره في دعم زراعة القمح حيث كان ذلك استمراراً لرؤيا الشهيد وصفي التل في الاكتفاء الذاتي من القمح والتي بدأ بتنفيذها في الستينيات.

أتذكر كيف كانت “شوالات” القمح (ذات الخط الاحمر) ترد على مخزن جدي في اربد قادمة من البلد في وقت الحصاد، واتذكر جيداً فرحتهُ الغامرة بذلك. كان القمح يشكل احساسا قديما بالأمان لدى جدي ولدى جيله؛ اذ إن الفلاح كان يعتمد على القمح في بقائه هو وعائلته على قيد الحياة. فكان منه الخبز ، المادة الرئيسية لطعامه، ومنه البرغل والفريكة ومنه “السليقة” و”القليّة”، ثم كان في مقايضته بقية لوازم الحياة. وبقي هذا الشعور بأهمية القمح لدى جدي مستمراً بالرغم من توفر العملة الورقية وتوفر الخبز من المخابز.

في منتصف الثمانينيات ومع تحول المجتمعات الزراعية في الاردن الى مجتمعاتٍ استهلاكية، بدأ الكثير من فلاحي القرية بالتحول الى زراعة الزيتون.
لقد بدأت الدولة بتشجيع زراعة الزيتون بدعمٍ خارجي على مايبدو. فكانت وزارة الزراعة تقدم دعماً مادياً للمزارعين الراغبين باستبدال زراعة القمح بزراعة الزيتون.

مقالات ذات صلة

الواقع إن جدي بدأ بزراعة الزيتون في إحدى قطع الارض التي كان يملكها في العام ١٩٧٣، ليس لتشجيع الدولة له على ذلك وانما لأن تلك القطعة كانت وعرة وغير صالحةٍ لزراعة القمح. فالفلاح في تلك الأيام لا يقبل للقمح بديلاً لزراعة ارضهِ.

ولأنه كان من أوائل من زرعوا الزيتون، فقد حصل في فترة الثمانينيات على دعمٍ من وزارة الزراعة لتطوير كرمه و لشراء الاشتال ولأقامة سور وحفر بئر ماء. الطريف في الامر انه بالإضافة الى ذلك، فقد كان يحصل على كمية من المعلبات كالسردين و”المرتديلا” وغيرها من الخضار المعلبة من وزارة الزراعة ولم أكن أعلم علاقة ذلك بزراعة الزيتون. لقد كان جدي يقوم باستبدالها بالرز او السكر من محل البقالة المجاور لانه لم يكن يقبل أن يستبدل طعامه الطازج من الخبز واللبن بطعام معلب كريه الطعم والرائحه.

في خلال عدة سنوات تحولت الكثير من اراضي القرية الى كرومٌ للزيتون وتم القضاء نسبياً على زراعة القمح. لقد اصبح المزارع يرى ان القمح لم يعد يوفر عائداً مجزياً، بالاضافة الى أنه لم يعد بحاجة للقمح لصنع الخبز خصوصا بعد توفر الخبز الابيض جاهزا في المخابز والذي تقدمه الدولة بسعرٍ مدعومٍ. وربما أيضا لأن الخبز البلدي لم يعد يصلح لعمل ساندويشة “المرتديلا” التي قامت الدولة بتوفيرها كمكافأةٍ على استبدال القمح بالزيتون.

الغريب في الامر أن أسعار الزيت لم تتطور بنفس الوتيرة التي تطورت فيها أسعار السلع الاخرى وخصوصا المستوردة؛ إذ إن توفره بكثرة في الأسواق جعل سعره منخفضاً مقارنة بأسعاره العالمية بالرغم من جودتهِ العالية. هذا بالإضافة الى عدم وجود سياسة حكومية لتنظيم صناعة الزيت بحيث تؤدي الى تصديره والاستفادة منه في توفير العملات الصعبة للبلد.

اتذكر حديثا لأحد المسؤولين الذي قال انه الحكومة كان تحاول بصعوبه اقناع الحكومة السورية بيع القمح للمملكة لأن الطلب عليه كان عاليا وكان عليها ان تبذل مجهودا كبيرا لشراءه.
تذكرت عندها قصة الشهيد وصفي مع وزراء الخارحية العرب عندما طلب خبزا وبصلا بدلا ً من طبق العشاء الفاخر ليقول لهم أنه يملك قراره.

اعتقد ان جزءا كبيرا من توتر شعبنا واحتقانه سببهُ الشعور الجمعي بعدم الأمان لفقدانه قمحه.

القمح هو الوطن وهو الاستقلال. ومن لا يملك قمحه لا يملك قراره ولن يشعر بالأمان.

ونحن في موسم الزيتون، هنيئا لمن زرع ومن قطف ومن عصر زيتونه وارجو ان يديم الله عليهم القمح “ليُغمِّسوا” به زيتَهم.

ودمتم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى