تطرف الأيديولوجيا
د. علي المستريحي
كل الأفكار الأيديولوجية (سياسة أو دينية أو غيرهما) انتهت إلى نهايات مؤسفة من التطرف والعنف! الأيديولوجيا وأدلجة “الأشياء” هي أصلا تطرف (لذهابها لأقصى اليمين أو لأقصى اليسار)، فهي تحرّش التصادم وتدفع باتجاهه. والأفكار الأيديولوجية هي غالبا مثالية الصبغة، تصور الأشياء والحياة البشرية كمدينة فاضلة، لذا، غالبا ما تصطدم بالواقع، فالطبيعة البشرية ليست مثالية تماما، ولم يقصد عند تصميمها أصلا أن تكون كذلك. في هذا المقال، مع اسقاطاته، استخدم الأيديولوجيا لتعني التطرف.
الشواهد من التجارب الإنسانية، قديمها وحاضرها، تصل لنتيجة واحدة: يبقى الوسط هو الجامع للناس والأقرب لهم والأكثر نجاحا في بناء الدول. وهنا، لا تعني الوسطية الحيادية، فالفرق بينهما كبير. فبأقل تقدير، الوسط موقف والحياد لاموقف، والحياد في الحق ظلم، كما عبّر عن ذلك سيدنا علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، بل وأرى الحياد جرما عندما يكون قول الحق لازما ويتطلب موقفا.
في التجارب الإنسانية، كثير من الدول وجدت نفسها تنخرط بمعضلة الأيديولوجيا وتبنتها أساسا لبناء الدولة. حتى بالنسبة للدولة الواحدة نفسها، فقد مرت كثير من الدول خلال مراحل تطورها بالتحول من دولة الأيديولوجيا الى دولة الوسط وبالعكس. ألمانيا مثلا زمن الهتلرية مقارنة بما عليه الآن، الدول الشيوعية والاشتراكية وعودتها مؤخرا للميل للوسط. أيضا نجد إيران “الفارسية” هي مثال على التطرف اليميني، وإسرائيل على التطرف العنصري والاثني والديني معا (أقصى يميني-أقصى يساري بأن واحد). أما من أمثلة الدول العربية التي تتجه للوسط، نجد الأردن أحدها (خاصة أيام الراحل الملك حسين، لكن الأردن لا زال يحاول البقاء بهذه المنطقة)، وهناك أيضا سلطنة عمان وربما المغرب. العراق وسوريا ومصر واليمن أيام الشيوعية ولاشتراكية هي كلها أمثلة على دول تطرفت أو تأدلجت (سياسيا و/أو دينيا) خلال مراحل تطورها.
ومن التجارب العالمية، نجد أن ماليزيا مثال على الدول التي تحاول أن تتموضع بمنطقة الوسط. أما تركيا، فهي مثال على دول تحركت على خط القياس من اليسار الأتاتوركي إلى اعتدال التنمية إلى حالة الشد والجذب التي بدأت تظهر مؤخرا (حيث بدأ يتجه معظم الأتراك لليسار، بينما تتجه الحكومة لليمين إحياء للإرث العثماني).
أما الدول الغربية، فقد طوّرت بالعقود الأخيرة موقفا أقرب للحياد “الإيجابي” في تسيير دولها من الداخل، فالنظم الغربية تقوم على فكرة التوازنات مع ميلها للأيديولوجيا الاقتصادية الرأسمالية بتغوّلها المادي المعروف باتجاه اليسار (مع أننا نتوقع أن تبدأ بإعادة النظر بهذا المسار بعد أزمة كورونا). فكرة التوازنات هي بالأساس موجهة لضبط إيقاع التطرف لأحد الأطراف، حيث تتبنى ما يعرف بفكرة التحيز الايجابي positive discrimination أو ما يعرف بتلك الدول بالإجراء التصحيحي affirmative action، وصولا لدولة القانون (فكرا وممارسة). ومعادلة التوازنات تعني أن جهة تحكم وجهة/جهات تراقب بالظل، ثم تتبادلان الأدوار، هذا مع الحفاظ على حقوق الأقليات والفئات المهمشة التي لا تتمكن من تمثيل نفسها، والهدف هو ضمان عدم تغول طرف على آخر (أي عدم تطرف أو خطف الجميع والذهاب بهم لأحد الأطراف).
المشكلة الحقيقية بالأيديولوجيات ليس بنفسها، بل تبدو أفكارها (وتبدأ) عظيمة، وغالبا ما تحقق نجاحات باهرة في بداياتها كما في شيوعية واشتراكية الاتحاد السوفييتي سابقا (كنظام سياسي اقتصادي) والاسلام عند بدايته (كنظام ديني)، ولكن، ذهبت تلك النظم بعد ذلك في رحلتها مع الزمن إلى التطرف وتم اختطافها من حالة الوسط (كما جاء بعضها بنسخته الأصلية مثل الأديان أو لكون بعضها الآخر مثالي لم يصمد أمام واقعية الحياة البشرية) إلى أحد الأطراف! المثير بالحالة الأوروبية بالعصور الوسطى أن تحالفت المسيحية المتطرفة (اليمين) مع طبقة الاقطاع (اليسار) وسحقا معا الوسط (تماما كما يحصل لدينا الآن في كثير من دولنا العربية)! فكثير من السلاطين ومشايخهم نصّبوا أنفسهم مكان الله، يدخلون الناس بالجنة ويخرجونهم من النار، ثم تقاطرنا عليهم نطلب “صكوك الغفران”! والحقيقة لم تقم لتلك الدول قائمة إلا بعد الثورة عليهما والاقتراب من الوسط.
خلاصة القول، إذا سعت الدولة، أي دولة للنهضة، عليها أن تنبذ التطرف (بزعمي هنا تتجنب الأدلجة)، يمينا أو يسارا، وتركز في بنائها على أن تبقى أمة وسطا وعلى كل ما يجمع ولا يفرق، لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) البقرة، 143.