غسان كنفاني.. كاتب مستنير وثوري حقيقي

د.حسين جمعة – اسم غسان كنفاني يتلألأ في سماء الإبداع ككوكب دري يضيء بنور أعماله الفنية وحياته الشخصية الدروب المظلمة أمام شعبه وأمته؛ إذ منحته القلوب محبتها، وشملته العقول بعنايتها واهتمامها، وسبغت عليه من التقدير والتوقير ما لم يحظَ به أحد من قبل.
غسان طاقة إبداعية غزيرة عز نظيرها، كان لها وما يزال حضور خاطف للبصر والبصيرة، لما أبدعته من صور فنية معبرة عن المرحلة التي جسدتها، وجلت بعضاً من همومها وإشكالياتها، وكانت تنهيدة عميقة استنطقت منظومة التداعيات والتراسلات المعقدة لبلوغ الصدق النفسي والفني المطلوب، وتمظهرت فيها استكشافاته الإبداعية في حقل الواقع والحياة، وتألقت شخصيته التلقائية الأصيلة، التي استجمعت وحدة البني الذهنية والانفعالية للذات، وعلاقتها المتفردة بالعالم المحيط بها.
ليس غريباً ولا مستغرباً على كنفاني، وهو ذو موهبة متفردة، وحساسية طاغية، وحماسة لاهبة لقضية وطنه فلسطين، إلى جانب تمتعه بنهج فردي واضح ومسلك فني مغاير لتجسيد الفكرة والغايات والمقاصد، أن يكون صاحب فتوحات غير متوقعة في مجال إبداعه واهتماماته، كأي مكتشف نابه ترتبط جهوده بشق طرق جديدة غير مألوفة، يمهدها وينيرها لتسير على منوالها ومثالها أجيال كثيرة، استأنست بها آمالها وطموحاتها وأحلامُها.
عالم كنفاني فريد وفسيح، متعدد الوجوه والصور والظلال والمخاتلات الفنية، أشرق يانعاً فارعاً يسير إلى أمام بخطى وئيدة ووطيدة.. تتحكم بسيرورته موهبة متألقة تطمح في النهوض بمشروع إبداعي مغاير، لا يتوقف عند الاستمتاع الجمالي الظاهر أو الإنشاء الإبلاغي والبلاغي، وإنما يسمو إلى الاستحواذ على روح الإشكالية وآفاقها المتشعبة وأبعادها المتشظية. هذا المشروع استملاه صاحبه من عمق مأساة شعبه لتصيب عدوى تأثيره القلوب المفجوعة والعقول المكلومة؛ باستغوار واقع شعبه وتفحص خصوصية حالته وشخصيته بذكاء حاد ورؤية نافذة.
وقد تفرد كنفاني بين أبناء جيله بألمعية إبداعية كاشفة حققت له إنجازات فنية مأثورة ما يزال صداها وتأثير صورها وشخوصها يثير حوارات متنوعة لما استحدثته من ابتكارات في الشكل وفتوحات في المضمون، والتقاء رصين بين الذاتي والموضوعي.
ظهرت بواكير أعمال كنفاني الإبداعية في الصحف الكويتية في نهاية خمسينات القرن الماضي، وكانت تومي إلى بروز قامة أدبية لافتة سواء على مستوى الشكل أو المضمون، لما تضمنته من أفكار رائدة وصور مثيرة ومساحات انفعالية واسعة، ولم تكن تقتصر على تصوير شؤون الحياة وتجسيدها، وإنما تجاوزت ذلك إلى ابتداع عناصر الواقع وإعادة تشكيل أبعادها وتكوينها من جديد، وتجذرت بالنفاذ إلى جوهر السيرورة الاجتماعية وبلوغ أدق ملامح الشخصية الفلسطينية ومآلاتها القاتمة، بالعبور الفاعل إلى أغوار النفس الإنسانية، وجلاء إرادتها المعطّلة.
غسان كنفاني نتاج عصره وزمانه، العصر الذي فقد فيه الفلسطيني وطنه وهويته؛ فكان تأثير ذلك على وجوده وكيانه ممتداً صارخاً لا يقبل المساومة أو المداراة.. رصد مأساة شعبه بعد أن أصغى إلى أنينه وأناته بكل جوارحه وأعصابه واشتعال ذهنه وأحاسيسه، وطوّع بتوتر إرادي صارخ سائر قواه الذهنية والانفعالية لالتقاط أساس الإشكالية وجوهرها، الذي عثر عليه في تقاعس الفلسطيني وخذلاته، وهروبه من أرضه حفاظاً على حياته الشخصية.. أي خوفاً من الموت المحتوم؛ فكانت قصته بلا بدء، بلا نهاية/ بلا ملامح .
محمد علي أكبر بطل قصة موت سرير رقم 12 الذي مات بعيداً عن وطنه، ظل محتفظاً بشيئين اثنين: ممتلكاته (الصندوق الذي يحتفظ فيه بالحلق)، واسمه الذي يشير إلى هويته وكيانه، وهذا التشبت بالأرض والهوية هو ما أراد كنفاني تأكيده والإصرار عليه، واستلهامه، حتى لو كانت نتيجة هذا التشبت الموت، لأن الموت يلاحق الفلسطيني خارج أرضه سواء أكان موتاً فعلياً أو موتاً معنوياً.
ومن هذا المنطق والمنطلق كان يتعين على الفلسطيني أن لا يهرب من وطنه مهما كان الثمن غالياً، فبطلة قصة شيء لا يذهب ضحّت بأغلى ما تملك المرأة العربية، ولم تغادر بلدها حيفا، لأنها كانت تريد أن يبقى لها شيء لا يذهب. وها هي البومة في قصة «البومة في غرفة بعيدة» تصر على البقاء على شجرتها الأثيرة، واختارت الموت على الفرار، على خلاف ما فعل الفلسطيني. والقصة في مجملها ضرب من الشعور بالحسرة والندامة وتوبيخ الذات لأنها فضلت الحياة على الموت، ولم تضحِّ بحياتها في سبيل الوطن، بعد أن ضعفت إرادة الإنسان الفلسطيني في مواجهة التحديات القاتلة وأذعن لهاجس الخوف، وقد التقط في عيني البومة وإصرارها الصلب على موقف الصمود إشارة تحذير إنساني ذكي له بأن لا شيء يعدل الوطن حتى الحياة الشخصية نفسها.
هذه الثيمة.. ثيمة الموت والحياة، نجدها في بعض القصص التي تبدو كأن لا علاقة لها بالموضوع الفلسطيني، فالراعي في قصة «الخراف المصلوبة» لا يؤثر نفسه على خرافه، ويختار الموت عطشاً إلى جانبها.. فهي بالنسبة إليه حياته وكيانه، لا فرق بين حياته وحياتها. التشبت بالمكان والأرض يحف بقصة «القط» الذي أبى على نفسه أن يموت بعيداً عن مكان إقامته، فجرجر جسده النازف إلى أن وصل إليه، وأسلم الروح.
تلاعب كنفاني في معظم قصصه هذه بمسألة الظاهر والباطن.. المذخور والمكشوف، وذلك للتعبير الخفي عن توجهاته وأفكاره، مستبعداً الإشارات المباشرة، سعياً منه إلى تجسيد اللوحة الموضوعية لقضية شعبه، واستنكاره لهروبه من مجابهة التحدي، وتفضيله الحياة على الموت.
كل ما كان يفكر به كنفاني في تلك المرحلة من إنتاجه الإبداعي، هو ترجمة مأساة شعبه، وجلاء الملابسات التي رافقت تشرّده وهروبه، وحثُّه على مراجعة الذات، والانتصار على ضعفه وهزيمته؛ بما قدم من نماذج إنسانية وصور لافته ومعبرة للاحتذاء بها والسير على منوالها. ويمكن القول إن كل قصة من هذه البواكير كانت الاختبار الأول في طريق كنفاني للوصول إلى سرديته الرائعة «رجال في الشمس»، ودق الجدران المغلقة، لأن معظم هذه القصص تحمل في أعطافها ملامح الحياة والموت.
زخرت بدايات كنفاني التي تجلت في قصصه بحكمة النفاذ إلى أسرار النفس الإنسانية، والإحاطة الشاملة بالموضوع، وبلوغ الحقيقة التاريخية بشفافية ونصوع، والملاءة بالحس الأخلاقي والمعنوي الرفيع. هذه القصص مشحونة بقوة الكشف والاستكشاف لما هو مكتنز في أعماق الإنسان الفلسطيني البسيط.
الاستنتاج الذي نستخلصه من قصص تلك المرحلة في إبداع هذا الكاتب المستنير والثوري الحقيقي، الذي ربط مصيره بمصير شعبه، واستشهد في سبيل مثله وقيمه، أن ليس أمام الفلسطيني في غربته سوى خيارين: الموت أو العيش في بؤس وشقاء، وإذا أراد الحياة فليس أمامه سوى إعادة التفكير والنظر في وضعه المأساوي، والتخلي عن فتوره وصمته وسلب إرادته، والتوجه إلى فاعلية المقاومة.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى