تقدير النفقات في أروقة المحاكم الشرعية / شروق جعفر طومار

تقدير النفقات في أروقة المحاكم الشرعية

شروق جعفر طومار

منذ نحو سبعة أعوام، أتردد أسبوعياً على المحاكم الشرعية لمتابعة عدد من القضايا الشخصية، وأصادف في كل مرة منها حالات عديدة تتفاوت في مدى تأثيرها في النفس والذاكرة، لكن أكثرها إيلاماً، كانت تلك التي صادفتها في المحكمة قبل أيام.

أمّ تحمل على صدرها طفلتها الرضيعة وتمسك بيد طفلتها الأخرى ذات الأعوام الثلاث، وبجوارها حقيبتين تحويان متعلقات الطفلتين، تقف في حضرة رئيس المحكمة، للتنازل عن حضانة الطفلتين وتسليمهما لوالدهما.

مقالات ذات صلة

قد يتحامل المراقب للمشهد من بعيد على الأم التي تتخلى عن حضانة طفلتيها، متعجباً من قدرتها على فعل ذلك في الوقت الذي يظهر فيه بشكل لافت اهتمامها بهندام الطفلتين، وأناقة مظهرهما، وبالتفاصيل الدقيقة التي تطل من جيب إحدى الحقائب كفرشاة تسريح الشعر الصغيرة، وحافظة الماء الساخن.

لكن، بالاقتراب قليلاً من التفاصيل، يتبين بأن الأم التي لا تعمل وليس لديها أي مصدر دخل، قررت تسليم الطفلتين لوالدهما لعدم قدرتها على تغطية نفقاتهما في ظل فرض المحكمة على الأب نفقة بمقدار 45 دينار شهرياً للطفلة، بعد أن تمكنت الأم بشق الأنفس من إثبات جزء يسير من مصادر دخل الأب الموسر صاحب الأعمال الحرة.

المؤسف، هو أن هذه الحالة، وما تحمله من ألم وضرر لكل من الأم والطفلتين، هي نموذج للعديد من الحالات الأخرى نتيجة عدم وجود آلية واضحة لاحتساب النفقة الواجبة على الأب لأبنائه بالتناسب مع قدرته المالية وفقاً لما تنص عليه المواد (187-189) من قانون الأحوال الشخصية رقم 26 لعام 2010، وإخضاع الأمر للحكم الشخصي والمزاجي في بعض الأحيان لمن يقوم بهمة تقدير النفقة.

تقدير النفقات يجري في الواقع، من خلال تعيين المحكمة الشرعية لاثنين من الخبراء المعتمدين لديها من المحاميين الشرعيين المزاولين للمهنة وغير المتفرغين لعملية التخمين، الذين لا تحكم عملهم إجراءات تلزمهم بالقيام بالتحري حول حالة الأب المالية، ولا تتاح لهم الوسائل اللازمة لذلك، ولا تقدم لهم أتعاب تحفزهم على بذل الجهد الكافي في مهمتهم، إذ تبلغ أتعاب الخبراء السائدة نحو 15 ديناراً.

وفي ظل ذلك، يلقى عبء إثبات دخل الأب على الأم التي لا تتمكن في كثير من الأحيان من إثباته خصوصاً في حال عمل الأب في التجارة والأعمال حرة، ويكتفي الخبراء في العموم بالحصول على المعلومات من خلال الاستماع للطرفين المتنازعين في أروقة المحكمة، وبشكل يخلو أحياناً من قانونية اعتماد تلك البيانات والأقوال، ومن ثم كتابة تقرير الخبرة في الممرات وعلى عجالة قبل دقائق من موعد تقديمة للقاضي وفقاً لما هو متعارف عليه منذ عشرات السنوات.

وبالرغم جسامة المعاناة المترتبة على ذلك لدى حالات عديدة يكون أول المتضررين منها هم الصغار، ومناداة الكثير من المحامين الشرعيين بضرورة إيجاد حل جذري لهذا الخلل، وأهمية أن يكون الخبراء من غير المحامين منعاً لتضارب المصالح الشخصية، إلا أن أمراً لم يتغير وما تزال النفقات تقدر بهذه الطريقة في هذا العصر الذي وصلت فيه الأتمتمة وإمكانية الوصول إلى البيانات مراحل متقدمة جداً.

ينبغي على دائرة قاضي القضاة إعادة النظر في آلية تحديد النفقات، وسن إجراءات واضحة لعملية إثبات حالة الأب المالية، ووضع معادلة أو مصفوفة حسابية لاحتساب النفقة اعتماداً على حال الأب وتكاليف متطلبات الحياة للصغار وفقا لسنهم وأحوالهم، لرفع الظلم الواقع على كثير من الأبناء لفرض نفقات أدنى من حقهم، وعلى بعض الآباء أيضاً بتحميلهم نفقات أعلى من قدرتهم، في المكان الذي يهرع إليه الإنسان بحثاً عن الإنصاف والعدالة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى