هذا العالم الجديد الذي قد لا نعرفه

هذا #العالم_الجديد الذي قد لا نعرفه
بقلم : د. #لبيب_قمحاوي
22/11/2022
lkamhawi@cessco.com.jo

عالمنا الذي نعيش فيه الآن يعاني من #انفصام متعدد الأوجه . فهو يجمع بين عالمنا الحالي الذي نعرف، وعالمنا الأقدم الذي لم نعرف إلا من خلال الكتب والروايات والأفلام الوثائقية وبعض الزيارات الميدانية للمناطق النائية، وعالمنا الجديد المتغير الذي لا نعرفه حتى الآن إلاَّ جزئياً وبدرجات متفاوته .
ماهو إذاً هذا #العالم #المتشابك والمتغير الذي نعيش فيه الآن؟ وماهي طبيعته وطبيعة وسائله وأهدافه وقضاياه وكيف نتمكن من معالجتها أو التعايش معها ؟
الاجيال السابقة تائهة بين ما كانت تعرفه واعتادت عليه، وبين قدرتها على القيام بما هو مطلوب منها الآن في عالم جديد متغير بسرعة مُفزعة، أماّ الاجيال الجديدة فإماَّ أنها واكبت عالمها الجديد، أو ما زالت تبحث عن نفسها وعن دورها في هذا العالم الجديد الذي تحكمه تكنولوجيا متطورة ومتغيرة بشكل متسارع . وبالرغم من ذلك فإن تلك الاجيال الجديدة ما تزال أقرب الى فهم التكنولوجيا الجديدة على حداثتها واكثر قدرة على استيعابها من قدرتها على فهم واستيعاب المشاكل المحيطة بها كون تلك المشاكل في أصولها هي من افرازات عالمٍ قديمٍ ذَوَى أو كاد، مما يخلق للأجيال الانتقالية والجديدة حالة من عدم التوازن والانفصام بين متطلبات الجديد وواقع القديم، وبين ما هو ممكن وموجود وما هو غير موجود أو قيد التشكيل .
الاجيال الأكبر سناً بعضها قد نجح في ملامسة قشور التكنولوجيا الجديدة واكتسب بعض القدرة على التعامل البسيط معها، في حين أن الأجيال الجديدة ربما تكون قد نجحت في التعامل مع تلك التكنولوجيا بعفوية وبساطة وسهولة يحسده عليها الكبار دون أي وعي منهم أن ذلك يعني تزايد الفجوة بين الاجيال وضعف متزايد في امكانية ايجاد أرضية مشتركة للتفاهم بين الاجيال حيث أصبح الكبير يتعلم على التكنولوجيا من الصغير وليس العكس كما كان عليه الحال سابقاً.
وتيرة التغيير أصبحت الآن اكثر سرعة وتسارعاً، وقدرة العالم والبشر على التأقلم مع تلك المتغيرات أصبحت بالتالي أكثر صعوبة . القضايا والمشكلات السياسية التي تعصف بالعالم الآن هي في معظهما نتاج عالم يغادرنا بسرعة مفسحاً المجال أمام عالم جديد يتميز باختلاف جوهري في طبيعته وفي مفرداته وفي نمط علاقاته بين البشر . العالم القديم يتم تجريفه الآن بقسوة تخلو من أي تعاطف مع ما تبقىَّ منه ومع البشر المنتمين إليه . ذلك العالم الذي يذوي بسرعة البرق، بعد أن أثبت أنه يمتاز ببلادة وبطئ في استيعاب المتغيرات الجديدة وفي التكيف معها .
البشر الجديد يختلف عن البشر القديم بكونه أقل عاطفية وأكثر إنضباطاً. البشر الجديد هم باختصار أقل انسانية في مشاعرهم، وعلاقاتهم مع الآخرين علاقة فردية انضباطية لا تحمل مشاعر الود والعاطفة بقدر ما تحمل وُتقَدَّس وتحترم العلاقة المصلحية المتبادلة القادرة على خلق عالم مشترك من خلال خلق روابط مصلحية ُمْشتَرَكَة جديدة تختلف عن ما عهدناه . الخصوصية أصبحت بلا معنى . وحتى الروابط الأسرية والعائلية ابتدأت تضيق وتتقلص الى حدود العائلة الصغيرة المباشرة فقط، ومفهوم التكافل الأسري والاجتماعي أصبح جزأً من الماضي . وحتى العلاقة المباشرة بين أفراد العائلة الضيقة ابتدأت تفقد طبيعتها لصالح علاقة تستند الى مفاهيم كونية عامة مثل حقوق الانسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل التي أضعفت من عفوية العلاقة العائلية المباشرة ومن الدور الطبيعي لكل من الأب والأم في تربية أولادهم، وأصبح ارتباط الأطفال بوالديهم ارتباطاً عاطفياً ولكنه مقيداً بضوابط تجعل من العائلة جزأً من نظام اجتماعي (social system) وليس أساساً للمجتمع (society) كما عرفناها وعهدناها على مر العصور .
العلاقة بين البشر أصبحت تمر الاّن عبر موصلات ووسائل وقنوات تواصل وتعبير تُلغي الحاجة الى توفر علاقة انسانية أساسها الاحتكاك المادي المباشر من خلال المُشَاهَدة والتواصل . وهكذا، فإن إنساناً ما يفهم التكنولوجيا الحديثة ويتقن استعمالها والتواصل عبر وسائلها المختلفة، قد يكون أقدر على التفاهم والتفاعل مع شخص آخر يمتلك نفس المهارات ويقطن بعيداً عنه آلاف الأميال من جاره الذي يسكن في الشقة المقابلة في نفس المبنى ولكنه لا يتقن فنون التعامل مع التكنولوجيا الجديدة . وهكذا، فإن ما يحكم العلاقة بين البشر في العالم الجديد هي قدرتهم على التواصل والتفاعل ضمن وسائل التكنولوجيا الجديدة، وليس الروابط العائلية أو الانسانية أو الجغرافية أو المكانية أو الهوية الوطنية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية أو قرب مسافة التواصل المادي المباشر أو بُعدِها .
السياسة أيضاً لم تعد كما نعرفها تقليدياً، والحياة السياسية الآن لم تعد عقائدية كما كانت في القرن العشرين، ولم تعد بالتالي تعكس أسلوب حياة صاحبها بقدر ما أصبحت عبارة عن محطة عبور من حالة الى حالة . وما كان مقدساً أصبح قابلاً للتداول، وما كان من المَسلَّمات أصبح من الأمورالمشكوك بها .
سوف يشهد العالم الجديد إختفاء الكثير من المفاهيم التي تنتمي الى العالم القديم ومنها الدولة الوطنية والهوية الوطنية والسيادة الوطنية لتفسح المجال أمام عالم سيبراني غير ملموس لا تعني فيه الهوية الوطنية شيئاً ولا تمثل السيادة الوطنية أي قيمة حقيقية في عالم يتم اختراقه من الفضاء ويتم التجوال في سمائه واجوائه دون استئذان، ويتم الوصول اليه والى مواطنيه عبر شبكة عنكبوتية لا تخضع الاَّ إلى القليل من القوانين، والقدرة على السيطرة عليها محدودة جداً وتكاد تكون معدومة إلا للقلة القليلة جداً من مالكي حقوق التكنولوجيا الحديثة المتطورة.
الإنتماء سوف ينتقل من الهوية الوطنية أوالدينية أوالمذهبية إلى مفهوم المصالح المشتركة بشكل عام والى مفهوم المصلحة الشخصية والتي قد ترتبط بشركة ما أو مجموعة ما بشكل خاص . الولاء سوف ينتقل بالتالي من الولاء للدولة الى الولاء لتلك الشركة أوالمجموعة . ومن هنا تصبح السيطرة على الأمور والضبط والربط قضايا نسبية ترتبط بتطور البشر وتحولهم من مجتمعات (societies) الى مجموعات (groups) يتعدى ما يربطها مفهوم الجغرافيا الى مفاهيم أخرى مثل الانتماء التكنولوجي أو الانتماء المهني أو المصلحي الذي قد يصبح البديل للإنتماآت التقليدية كما يعرفها العالم القديم .
السلوك الاجرامي والعصابات سوف تصبح أيضاً مرتبطة بالتكنولوجيا الجديدة والقدرة على الاختراق الالكتروني والانتماء لهذه المدرسة في الاختراق أو تلك. وحتى العادات الاجرامية مثل الادمان سوف تأخذ أشكالاً جديدة تتوافق مع العالم الجديد . والحديث هنا يدور مثلاً حول أنماط من الموسيقي بترددات معينة لها تأثير إدماني تماماً مثل تأثير المخدرات مما يجعل المرء بحاجة ماسة الى الاستماع إليها بشكل دوري وبالطبع مقابل دفع مبالغ معينة أو اشتراك معين.
المال المتداول والثروة لن تبقى في المستقبل نقوداً تقليدية نلمسها ونحصيها بل هي في الطريق لأن تصبح أرقاماً نقرؤها أو نسمع بها ونستعملها دون أن نراها أو نلمسها بل نرى فقط ما تستطيع أن تشتري لمالكها أو تفعل له .
وهكذا، فإن العالم الجديد سوف يكون عالماً بارداً مملوأً بالفراغات الانسانية التي لا يمكن ملؤ فراغاتها بالعواطف بل بالمصالح، وسوف يكون عالماً موحشاً يتميز بشعور متنامي بالوحدة والتوحد الى حد الملل، ولكنه سوف يكون عالماً منظماً الى حد الملل أيضاً .
اهتمامات البشر في العالم الجديد سوف تفوق حدود الأرض التي نعيش عليها والتي أخذت تضيق بمن عليها من بشر، ومواردها لم تعد تحتمل الاسراف البشري في الاستهلاك والتلوث حيث الاجواء مسمومة والمياه ملوثة مما لن يترك أمام البشر من خيار إلاّ العمل على إعادة الحياة الى أرضهم المنكوبة، أو الانطلاق الى عوالم أخرى في الفضاء الرحب، إذا كان ذلك ممكناً .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى