كي لا يكون الربيع العربي فجراً كاذباً

ضرار بني ياسين – قيل عن القرن العشرين إنه القرن الأكثر عنفاً ودموية في تاريخ البشر، فقد امتُحِنت فيه المصائر الإنسانية على نحو غير مسبوق، وسقطت فيه أحلام الثورات السابقة التي أنجزتها الشعوب على طريق تحررها وتقدمها، وهبط فيه المعنى الإنساني للتقدم، على نحوٍ أوشكت فيه هذه المفردة الأثيرة على قلوب العقلانيين والتنويريين على حدّ سواء على الإمحاء والزوال من قاموس البشر. فقد أصبح بالكاد يمكن التعّرف إليها، مع صعود البربرية الرأسمالية إلى ذُراها، أما العقل والعقلانية فيبدوان كما لو أنهما أصيبا بمقتل حقيقي، على الرغم من كل الحجج بشأن إستمرارية وظائفهما في إمداد الوعي الإنساني بالأمل والأحلام العِراض.

هذا التوصيف يخصّ العالم كلّه، فماذا عن العرب الذين ظلوا يمحّصون تحققات تنويرهم ونهضتهم وحداثتهم السياسية؟ ماذا عن المصائر التي آلت إليها العشريات السبع الماضية من تاريخهم الحديث، المفتوح على القلق اليوم مثلما كان بالأمس مفتوحاً على الحلم والأمل.
إن أكثر المقاربات إمكاناً في الإجابة عن هذا السؤال يقدمها عنوان الكتاب الصادر في بيروت «قرن من أجل لا شيء. الشرق الأوسط العربي. من الإمبراطورية العثمانية وحتى الإمبراطورية الأميركية»، ولكنه لم يكن من أجل لا شيء على وجه الحقيقة، بل من أجل الاستبداد والضعف، وهذه الحقيقة ينبغي أن تسجل اعترافأ بالإدانة الصريحة، لأن العرب قلبوا مضمون مشروعهم النهضوي، وأسسوا مشروعاً للاستبداد والضعف والتخلف، وأخلصوا لهذا المشروع أكثر من إخلاصهم لأي شيء آخر.
أرهصت الحداثة السياسية المفترضة على الضفاف العربية بمشروع بناء الدولة الحديثة التي شكلت أشواق العرب وآمالهم بُعيد رحيل الاستعمار وبداية انطلاق الدولة القطرية العربية، وعلى أساس أن تدشن هذه القطريات مرحلة أبعد والولوج إلى الدولة القومية، التي نُظر إليها أنها عنوان التقدم والرخاة والقوة، وتحقيق الاستقلال التاريخي للعرب، في وقت ازدهرت فيه التكتلات والأحلاف السياسية والعسكرية، العقائدية منها وغير العقائدية.
لأقل بقليل من قرنٍ، عاين العرب أحلامهم المهدورة، وعاشوا يحلمون بدولتهم الحديثة الديمقراطية، لكن الضمائر الشقية المعذبة، اكتشفت كثيراً من الآمال العِراض المزيفة التي بشرت بها النخب الحاكمة، فقد كانت الدولة ومعها هذه النخب أقل بكثير وأشدّ تواضعاً من تلك الآمال.
لقد كان الفهم الرومانسي لمشروع الدولة الحديثة يسيطر على النخب الحاكمة وفي الدرجة نفسها على النخب الثقافية، كما عند عامة العرب العاديين، ولم يرْقَ العقل السياسي العربي إلى لحظة الفصل بين العقل الدولاتي والعقل السلطوي المحمل بكل أمراض الجهوية والحزبية الضيقة فضلاً عن نخبويته ونرجسيته، الأمر الذي أفسد مشروع الدولة، مثلما أغرق مفهوم السلطة بالاستبداد والدكتاتورية والفساد المصون من السلطة نفسها، وفسدت الحياة السياسية العربية برمتها.
عن أي ميراث ثقيل وفاشل يمكن أن يتحدث المرء في ما خصّ تجربة العرب الحديثة مع استقلالهم وديمقراطيتهم ودولتهم الحديثة؟ لكن الشيء الأكثر مرارة هو أنه حكم على الورثة العرب لمدّة تزيد على سبعة عقود أن يحتالوا على فشلهم ومرارتهم وخيبتهم، بل أن يرضوا بذلك كلّه، سواء كانوا قانعين به أو لم يكونوا كذلك.
أيّ ميراث هذا الذي تجري عملية فحصه وتمحيصه والتحقق منه، بعد أن ظل سنوات طويلة يُقدم من الشرعية السلطوية العربية بوصفه أفضل الخيارات الممكنة للحاضر والمستقبل، ومن أنه أفضل العوالم الممكنة التي يمكن أن تحققها الشعوب العربية الممتحنة كل يوم بخصوص مصائرها التاريخية، حتى وإن بدت أسوأ المصائر على الإطلاق.
عندما ولجت السلطة العربية المُتماهية مع حالة الدولة الرخوة المرحلة الحرجة من فشلها في تحقيق مشروعها السياسي الديمقراطي ومشروعها الاجتماعي، لم تجد بُدّاً من تطوير تقنيات وديناميكية خاصة بتجديد الشرعية التي تتعلق بوجودها الأصيل والمزيّف على حدّ سواء، فبادرت إلى بناء هيكلها المقدّس لكي تحصّن نفسها ومستقبلها، إلى أن تقدّست السلطة نفسها.
لم يكن مُستغرباً عندئذ أن نرى أن العرب وحدهم اليوم من بين المخلوقات الآدمية الأرضية، الذين ما يزالون يُعاينون في حياتهم الثقافية والعلمية ويتحققون من مفاهيم من قبيل الدولة والسلطة والشرعية والديمقراطية، لأن الحداثة السياسية عندهم لم تكد تتجاوز نمط إنتاج السلطة «الهيراركية» للحكم، وسيميائيات الراعي والرعية.
إن أقسى الحقائق التي يجري اكتشافها على جبهة المثقفين والمفكرين العرب المعاصرين، سواء كانوا إسلاميين أو قوميين أو ليبراليين، تأتي من جهة الوعد الذي أُنفقت في شأنه مئات الكتب ومئات المؤتمرات والندوات، التي أمضت عقوداً في التنظير للدولة الوطنية الحدثية، أو حتى الدولة الوحدوية القومية، التي شكلت وما تزال حلماً عربياً يضاهي التنوير الموعود على درب الحداثة السياسية والاجتماعية والعقلية.
واليوم، قُدّر للجيل العربي المعاصر أن يشهد التفتحات المصيرية للحظة ما يُدعى الآن بـ»الربيع العربي»، الوالج لعصره الجديد أو المجدد بثورات تحلم الشعوب أن تُسفر عن فجر أصيل ووعدٍ صادق هذه المرة، وليس فجراً كاذباً تسرقه القوى البراغماتية في الداخل والخارج. ولا ننسى أن إحدى الحقائق الصارخة التي كشف عنها هذا الربيع، وكيفية تعامل السلطة الاستبدادية العربية معه، قد شكلت خيبة أمل كبرى، وصدمة كبيرة للوعي العربي، هو غياب وانعدام شيء اسمه الدولة الوطنية من أساسها، لأنه لا وجود في الحقيقة للدولة على أرض الواقع، وإنما توجد سلطة فاقدة لشرعيتها مثلما هي فاقدة لوظيفتها.
كانت الدولة مسروقة تماماً لصالح مشروع السلطة، وعاش الإنسان العربي طِوال عقود مع وعيه الخاص بالسلطة الحاضرة دائماً وأبداً في دلالاتها القاسية، ليس بوعي الدولة التي تمارس حقها بالعنف الشرعي، وإنما بوعي السلطة التي بدت في كثير من المناسبات عصابة منظمة. وهكذا لم يعش الإنسان العربي وعياً أصيلاً، ولا وجوداً أصيلاً مع مفهوم الدولة، لأن دولته ببساطة لم تكن إلا عالماً افتراضياً فقط.
لقد أخفق التنوير العربي في أحد مفاصله الأساسية، فشل في الحداثة السياسية، وبناء الدولة الحديثة الديمقراطية، حاملة مشروعها الاجتماعي والثقافي، مثلما فشلت الحداثة نسبياً في جانبها العقلي والفكري. ولكن على الثورات العربية أن تُنجر أفضل العوالم الممكنة للشعوب العربية المنتظرة دورها على قطار الأمم المتقدمة، والمُؤجلة مشروع كتابة تاريخها الحديث، وليس من قبيل المُبَالغة القول إن المطلوب من هذه الثورات هو أن تحقق للعرب استقلالهم التاريخي الذي طال انتظاره في تاريخهم الحديث والمعاصر. ولكن من جانب آخر فإن من أبرز مهامه اليوم الخروج بالعرب من أوهام الكهف السبعة: وهم إنجاز الدولة الوطنية الحديثة، وهم تحقق المواطنة، وهم الديمقراطية، وهم الخروج من حالة المجتمع الأهلي إلى حالة المجتمع المدني، وهم التقدم، وهم التنمية والتحديث، وأخيراً وهم التحرر الذي طال انتظاره. وإلا فإن الربيع العربي سيبقى ربيعاً ناقصاً إن لم يكن كاذباً.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى