ماذا يحدث في تونس؟ / د. هاشم غرايبه

ماذا يحدث في تونس؟

تحظى مجريات الأمور في تونس باهتمام الأمة، كونه مهد أول ثورة حقيقية في الوطن العربي، وامتدت الشرارة الى باقي الأقطار، وكانت تونس فعليا القطر الوحيد الذي نجى قبل أن يتكون ذلك التحالف المضاد من قبل الأنظمة العربية مع سادتها من قوى الإستعمار الراعي لها، ويوقف المد الثوري الشعبي، ثم يستعيد زمام الموقف، وعندها انضمت لهذا التحالف القوى التقدمية (القوميين واليساريين)، بعد أن اكتشفت أن البديل الديمقراطي لأنظمة سايكس بيكو سيكون لصالح منافسيهم الإسلاميين، ولن ينالوا كعكة السلطة.
من المفيد متابعة اتجاهات منتجات الإنتخابات الحالية في تونس، لأنها تعطي صورة تقريبية لما كان سيحدث في الدول العربية الأخرى فيما لو نجح الثائرون بإسقاط رأس النظام فحسب، ومن غير تغيير جذري.
إذا استعرضنا مائة عام من حكم الأنظمة العربية العلمانية الليبرالية، سنجد أن ما حدث فعليا لم يكن استقلالا، بل انتقال من الإستعمار المباشر الى غير المباشر، لذلك كان دورها الأساسي محددا بما أوكلته إليها تلك الدوائر، وهو منع عودة المنطقة العربية الى ماكانت عليه من وحدة أنتجت دولة قوية منافسة، بل ومتفوقة، وكانت الوسيلة لذلك قطع الأجيال العربية عن جذورها الإسلامية وتغريبها عن هويتها بذريعة اللحاق بالغرب المتقدم.
في تونس عمل عهد بورقيبة على ترسيخ العلمانية، ورغم حماسته المنقطعة النظير لفرنجة تونس، حيث كانت أول قطر إسلامي يُجرّم مظاهر الدين ويعاقب على اتباع الشريعة، إلا أن فرنسا لم يقنعها كل ذلك، إذ لاحظت بالمقابل تزايدا مقلقا بالتمسك بالإسلام، واعتقدت أن كل إجراءاته لم تنجح باجتثاث الدين من النفوس، فقامت بتسليم السلطة الى “بن علي”، والذي هو من العلبة العلمانية ذاتها.
الرئيس الجديد لم يخيب ظن فرنسا، فأخلص الجهد في محاربة الإسلاميين بكل شراسة، فاعتقل قادتهم وشرد الدعاة، واجتبى بالمقابل اليساريين مقابل مشاركتهم في معركته لمحاولة اجتثاث الإسلام، ومساعدته بتنشأة الأجيال على الفرنسة والبعد عن الجذور الإسلامية.
اتبع الخطة الخبيثة ذاتها التي تتبعها كافة الأنظمة العربية، والتي تتلخص في احتكار العلمانيين للمناصب الأكاديمية والفكرية الثقافية، فأغرق الجامعات بالموظفين الإستخباريين لإبعاد المدرسين الذين يشك في انتمائهم للعقيدة الإسلامية، ولم يهتم بما قد يسببه ذلك من انحدار في مستوى التعليم، وهكذا على مدى العقود تمكن العلمانيون من الإستئثار بكل المناصب الأكاديمية، فأصبحت المناصب دولة بينهم.
لعل هذا يفسر قوة أصوات اليسار في المستويات الإدارية العليا (الجامعات والمؤسسات الرسمية والإعلامية والثقافية)، فهي التي تم بناؤها من العلمانيين، في حين أن الصوت الإسلامي هو الغالب بين الطبقة الشعبية المتوسطة والفقيرة .
وذلك يفسر أن المنافسة عل الرئاسة تنحصر دائما في المعسكر العلماني، ولهذا تأهل الآن للترشح لهذا المنصب اثنان من العلمانيين، هما نبيل القروي وقيس سعيد، فيما جاء ترتيب الإسلامي “عبد الفتاح مورو” تاليا لهما.
لعل أهم أسباب تفوق هذين الإثنين هو انخفاض ثقة التونسيين بنظامهم السياسي، فهذان المرشحان غير مجربين، ويجزلان الوعود للجماهير المحبطة من عدم تحقيق مكاسب حقيقة.
“قيس سعيد” هو أكاديمي جامعي طرح فكرة خيالية عما سماه استعادة الجماهير للسلطة، بإلغاء سلطة مجلس النواب واختيار النواب من المجالس المحلية المتخبة، وقد حصل على إعجاب الشباب بأسلوبه الخطابي، حيث يتحدث برتابة كالرجل الآلي، فاكتسب كنية “الشرطي الآلي” ، كما أنه يظهر نفسه بصورة نزيهة حيث يتنقل بوسائل النقل العامة.
أما “نبيل القروي” فهو رجل أعمال ثري في مجال الإعلام وشريك “بيرلوسكوني” في قناة تلفزيونية، ويظهر نفسه كمدافع عن الفقراء، حيث أعد نفسه منذ سنتين للإنتخابات، من خلال تقديم برنامج تلفزيوني خيري يدعى “خليل تونس”، وأسس مع “باجي السبسي” حزب نداء تونس اليساري، وظل من خلال قناة “بسمة” متخصصا في انتقاد الإسلام من خلال مهاجمة منهج حزب النهضة.
اللعبة تكمن في جعل خيار التونسيين ينحصر بين علمانيين، لكن “القروي” مسجون بتهم مثبتة بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال، ولو تمت إدانته، فسيصعد الإسلامي “مورو” للمنافسة، لذلك سنرى كيف ستضغط القوى الغربية لتبرئته واخلاء سبيله…فالمحظور الأكبر في دويلات سايكس بيكو أن يصل الإسلام الى الحكم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى