الشتاء “مهنتي”..

مقال الثلاثاء 26-1-2016
الشتاء “مهنتي”..
أعرف نفسي جيّداً، فمنذ ان تخرجت من الجامعة وأنا أرفع راية الاستسلام البيضاء للمهن كافة …فتنازلت عن السبع صنايع وتمسّكت في البخت الضايع وحسب..لقد تعلّمت بحكم التجربة، أن أي عمل يستدعي مهارة خاصة، أو حرفة يدوية ، أو جهود دقيقة في التصليح..يجب أرفع يدي عنها..ثم أمدّ سجادة الصلاة وأصلي لربي ركعتي شكر أن فتح لي باب رزقٍ من الكتابة لا من غيرها…
تخيلوا أن تثبيت مسمار في خشب الدُّرج على سبيل المثال يحتاج مني إلى نصف نهار على الأقل ..كلما طرقته طار إلى صدر الغرفة ، وبعد أن أستعيده بهمّة الأبناء يطير من جديد، وإذا ما قررت غرسه جيداً واضعاً إياه بين إصبعي الإبهام والسبابة وأحاول ضربه بالمطرقة ينزلق رأس القدّوم عن المسمار ويصيب الظفر ، فاترك التصليح وأبدأ بمص الإصبع المصاب حتى يبرد ويخفّ نبضه ، والنتيجة ؛ تمل العائلة من جهودي في التصليح ويحملون عدة النجارة من أمامي قبل أن أخرج بعاهة مستدامة…
تخيّلوا لو أني احترفت النجارة كمهنة وكمصدر رزق..أعدكم أني سأفقد أصابعي التالية :الأوسط ،السبابة ،الإبهام والخنصر عند أول استخدام للمنشار الكهربائي ..ولبقيت أسلم على الناس وأحك شعري وأردّ التحية وابعث مسجات “الواتساب” بالبنصر فقط..
أنا لا مهنة لي في حضرة الشتاء …الشتاء “مهنتي”..فمنذ أن قالت مصادر التنبؤات الجوية أن هذا الأسبوع حافل بفعاليات جوية ومطرية ،وأن الغيوم تخبئ الثلوج في جيوبها كما تخبئ الأمهات “الملبّس والفيصلية”..وأنا ألغي كل مواعيدي المرتبة مسبقاً..اتصلت بهم واحداً واحداً…وأخبرتهم : أنه “في عندنا عطوة” هذا الأسبوع وأنا كفيل الدفا والوفا…وهذا يستوجب حضوري ثم أسرد لهم تفاصيل لحادثة وهمية من الخيال وكيف “دخلوا فيّه الجماعة” فأحصل على تعاطف غير مسبوق من صاحب الموعد، وبعد ان أنجح في الإلغاء أعود لفرشتي ..في الحقيقة انا لم أكذب فأنا وكيل الدفا حقاً..اللقاءات يمكن ان تعقد في أي وقت..لكن المنخفضات لا تعترف بالأجندة ..هذا موسمي ..والشتاء مصدر رزقي الأدبي..
أنا كائن مخلوق من حبر وورق ودفء وأرق..”الشتاء “مهنتي” الوحيدة، والكتابة طقسي الجميل..أتحرى الغيوم الثقيلة كما يتحرّى العاشق حبيبته، أحاول أن استثمر كل الوقت في الرسم على بخار النافذة ، ومراقبة أغصان السرو عندما تشتبك بشجرة التوت الشقيقة ، وأتابع جيداً مسار تحرّك كرتونة “مستر شيبس” الفارغة بفعل الريح …فوق وسادتي “اعمال الماغوط” واحمد مطر وغادة السمان “الأبدية لحظة حب” ..بينما محمد عبد الوهاب يغني “يا وابور قلي رايح على فين”، كلما أنهاها عدتها من جديد …بين الحين والآخر أتحرّش بالنار .. ..أحرك رأس “الفوجيكا” أنفخ على القبة الملتهبة فيتطاير ريحها،يا لرائحة السناج كم يذكرني ببيتنا الغربي ، بعتمة القصيب ، بنقاط الدلف، بالطين المبتل، بذراع الشباك الشمالي ، بالزجاج المهتزّ، برائحة صوف الفراش المعتّق بالرطوبة ، ورسومات اللحف القديمة..وأشقائي الذي كانوا يحتّلون أماكن إستراتيجية قرب الصوبة…وأبي الذي يسبح كلما سمع صوتا للرعد ..وأمي التي تنفخ على “طاسة العدس” التي تنضج على مهل…
الشتاء “مهنتي”..أقص من زجاج الوقت غيمة مهاجرة، اهندس لها بروازاً من تعابير الدفء..ثم أعلقها على جدار الذكرى لشتاء قادم…ثم تعود لي أصابعي سالمة…
دعوني أؤجل كل المواعيد..
فالمطر بعض من قدر..مواعيده لا تؤجل..

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫12 تعليقات

  1. يا الله على هالحكي …. عيشتنا الجو …. عنجد حلو الشتا والمطر لما الواحد يلغي مواعيده ويضل دافي في بيته بين اهله واخوانه ….. تسلم ايدك على مقالاتك بجد رووووووووووعة …

  2. الشتاء بالنسبة لي موجع حد السيف…يذكرني بلمات الطفولة حول الصوبة والثلج يتساقط وتلك المرأة العظيمة تتلو علينا الحكاية تلو الاخرى..
    يعود الشتاء ويعود الثلج وهي لا تعود
    ما اقسى الذكريات بغياب البطلة…بغياب روح الزمان والمكان
    هنا في الغربة اقلب المحطات الاردنية لعلي المح زخات مطر او ندفات ثلج…استرجع الزمان والمكان وادعو لبطلتي الراحلة بالرحمة والمغفرة
    اوجعتني يا احمد حد البكاء

  3. ما يؤلم في الشتاء أكثر .. ذلك البرد الذي يسكن الضلوع .. ما أقسى البرد حين يأتينا من دواخلنا …. أعشق مطر الشتاء … وأخاف برده … المطر مهنتي .. والبرد شقوتي

  4. يا الهي كم انت بارع في وصف المشاعر التي نخبئها للشتاء…كيف تصف حجم العشق الذي نكنه للمطر والدفأ ولمشاعر الشجر…حين يبدأ المطر بالعزف على كل شئ يسقط عليه وابدأاستمع لاروع معزوفة يمكن ان اسمعها أذهب الى الشرفة التي تطل على الغيم من الطابق الرابع وامد يدي والتقط حبات البرد كانني اصافحها وحين تذوب امسح بها وجهي كي احس بقربه مني.. وانظر الى السماء واتحسس مكان القمر كي اشعره انني احسده لقربه من الغيوم ومرتع المطر….

  5. اخ كم انت موجع بمقالاتك…. كل حرف يوجعنا لان لكل حرف حكاية شتوية مفعمة بالحب الذي ما عاد يعود مع الغيم ….. كا ن البرد يأتي مع المنخفظات فيما يأتي الدفا كما اشرت من احضان كفلاء الدفا….الان نجد البرد دون دفانا الداخلي النابع من حب ما عد يعود….. اخ على زمن نبكيه يوميا

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى