بحبك يا حمار / وليد معابرة

بحبك يا حمار ..

ذاتُ مرة حدثَ لقاءٌ جمع عالم الفيزياء “أولبرت أينشتاين” بإحدى السيّدات الجميلات في أحد المطاعم، فسألته قائلة: ما هي النسبية؟ وهل هي نظرية معقّدة لا يفهمها إلا بضع أشخاص من العالم؟ فأجابها بروحٍ من المرح: لا يا سيدتي، إن النسبية أمرٌ يسير وبسيط، وإنّها تتمثل في أن يجلس رجلٌ مثلي مع إمرأة جميلة مثلك لمدة تزيد عن الخمس ساعات فتمر عليه وكأنها خمس دقائق، أو أن يجلس رجلٌ مع إمرأة قبيحة لخمس دقائق فيشعر أنّ الزمن قد تجاوز مدّة تزيد عن الخمس ساعات، بل خمسة أيام.

على الرغم من الروح المرحة التي كانت تعتري “آينشتاين” آنذاك؛ إلا أنَّه أصرّ على تقديم إجابته بطريقة علمية تعكس آفاقاَ ثقافية موثقة تتحدث عن نسبة الزمن سيكولوجياً؛ أو ما يسمى بـ “النسبية السيكولوجية” المنوَّه عنها في المثل القائل: “الانتظار موتٌ بطيءٌ” حيث أن الإنسان عندما ينتظر نتيجة ما؛ سيشعر أن عقارب الساعة تتحرك بكسلٍ شديد، بل أن الزمن يتباعد وأحداثه تمرُّ ببطءٍ أشد؛ فيشعر حينها أنَّه لا بدَّ من إشغال نفسه بمواضيع أخرى لا علاقة لها بالموضوع الرئيس؛ ليتناسى تلك الثواني والدقائق الاجتماعية الحاسمة التي من الممكن أن تؤدي به إلى عالمٍ من تنازع الأفكار وتوقّع النتائج التي لا يعلم رداءتها.

إن تلك السيكولوجية تذكرني بأحد الفلاحين المسنين، الذي كان يمتلك حمارين أهليين يستخدمهما متى شاء في حراثة الأرض، ويقودهما متى تمكّن لنقل الماء والحطب، حيث كان في آخر كل نهار يربطهما في الحظيرة المجاورة لمنزله، ويوثق كلَّ واحدٍ منهما بحبلٍ متينٍ يفصل كل حمارٍ عن أخيه؛ فربما أن ذلك الفلاح النشيط لا يريد أن تقع هناك أيَّة حوارات ثقافية بين الحمارين؛ لعلمه الأزلي أنّه من الممكن أن يفسد أحدهما الآخر إذا غابت سلطته كفلاح وارتفعت سيطرته، أو تغاضى عن عمله اليومي بمراقبة كلِّ واحد منهما، فهو يعلم أن ثقافتهما مقيتة، وأسلوبهما عنيف، كما أنَّه يُدركُ أن الحمار الأول أليفٌ وأمينٌ لا يحب كسر القيود وليس لديه أيّ ظروف اقتصادية تجبره اللجوء إلى ممارسة الفساد؛ مثلما يعلم أن الآخر أليفٌ وأمينٌ أيضاً؛ ولكنّه من الممكن أن يكسر قيود تلك القوانين؛ بسبب أنَّه يشكو من رداءة الظروف.

مقالات ذات صلة

مرت الأيام، ومضت السنون؛ وتعاظمت مشاغل الفلاح، فاستطاع أحدُ الحمارين الإفلات من مربطه والهروب خارج الحظيرة، متخذاً طريق النجاة بنزعِ كلِّ ما يدلُّ على شخصيته؛ حتى لا يُعرف في أرجاء الأرض، ولكي يستطيع استكمال تنفيذ مشروعه في ممارسة الفساد وأكل مزروعات القرى المجاورة من غير أن يتركَ دليلاً واحداً يشير إلى شخصيته…، وعندما جاء الفلاح في نهاية اليوم؛ دخل –كعادته- ليتفقد حِمَارَيه ففوجئ بوجود حمار واحد، فأخذ يطلق أنظاره يمنة ويسرة باحثاً عن الحمار الآخر علَّه يجده في ركنٍ من أركان مزرعته؛ ولكنَّه لم يجد له أثراً؛ فأيقنَ أنّه قد هرب وغادر المكان؛ فقرر أن يعلن لجميع الناس أن من استطاع الإمساك بذلك الحمار الهارب؛ فإنَّه سينال مكافأة مالية كبيرة ومجزية؛ فأخذ جميع الفلاحين يبحثون عنه بجدٍ ومثابرة ليتمكنوا من إيجاده ونيلِ تلك المكافأة؛ إلا أنّهم أخفقوا البحث وعادوا إلى منازلهم دون جدوى.

لم يكن لدى الفلاح حينئذٍ أيَّة حيلة إلا أن يدخل حظيرة الحمار الأبكم المقيّد الذي عشقَ الروتين وكره الثورة بعد أن اعتاد على الخنوع وحفظ الطريق التي رُسِمَت له بين الحقل والحظيرة، فصار يسلكها بمفرده من غير أن يفكر أن يَسلُكَ طريقاً آخر قد يرى أنّه أسهل وأكثر اختصاراً، فأخذ الفلاح يعاقبه يتوجيه ضربات السوط تارة وضربات العصا تارة أخرى…، وظلَّ يضربُ ذلك الحمار المقيّد حتى احمرَّ جلده وأدمِيَ وجهه…، فرأى الفلاحَ أحدُ جيرانه فسأله: لِمَ تضرب الحمار المقيّد وتترك الحمار الهارب؟ فقال الفلاح: إن هذا الحمار المقيّد لو استطاع الهروب من هذا المكان لوجدته أكثر عِناداً وعدوانية من أخيه الهارب.

خلاصة القول: إن ما تتمتع به شخصية الفلاح المغناطيسية التي تجمع بين القطبين المتنافرين (السالب والموجب)؛ تُحَتّمُ عليه إيقاع الحكم وإرضاء الفضول وإسقاط النسبية السيكولوجية في تطبيق القضاء البشري لإرضاء العامة من المواطنين القاطنين في القرى المجاورة، وتجاوز حالات الانتظار المشابه للموت البطيء الذي يعاني منه سكان قريته بعد هروبِ ذلك الحمار، وبالتالي فإنّه قد تمكَّنَ من أن يتعدى تلك الصعوبات الاجتماعية والسياسية من جانب، ويرفع عن نفسه العتب واللوم والتكفير عن ذنبه بأثر رجعي؛ فينصف حماره الذي ذاق ألوان الضرب بترديد قصيدة اعتذار يقول فيها: ((بحبك يا حمار، ولَعِلمَك يا حمار، أنا بزعل “أوي” لما حد “يقولك” يا حمار…؛ لأني (…) “بحبك يا حمار”)).

#الكاتب_وليد_معابرة

#الكاتب_الساخر_وليد_معابرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى