حروب استنزاف عربية-عربية / محمد نغوي

حروب استنزاف عربية-عربية

تُعرَّف حرب الاستنزاف (War of Attrition) على أنها إستراتيجية عسكرية يسعى من خلالها المتحاربون إلى تحقيق النصر عن طريق إنهاك الخصم، بتكبيده خسائر بشرية ومادية بشكل متواصل ولمدة طويلة، وهذه الحرب تمتد إلى أقصى مدى تسمح به قدرات الأطراف المشاركة بها، ومن خلال هذا التعريف يمكننا أن نستنتج أن الطرف الذي يمتلك الموارد البشرية والمادية الأكبر، هو الطرف الذي سيربح الحرب.، وينطبق تعريف حرب الاستنزاف على معظم الحروب التي حصلت واستمرت لأكثر من سنة، مثل الحربان العالميتان والحرب العراقية-الايرانية. وهذه كلها إنتهت بعد أن تم إنهاك الخصم وإستنزاف موارده.
ونقيض حرب الاستنزاف ما يسمى بالحرب الخاطفة (Blitzkrieg) والتي تعتمد عناصر المفاجأة والسرعة والكثافة الهجومية لتشكيلات المشاة والدروع، المدعومة بالمدفعية والغطاء الجوي القوي، وتهدف إلى إختراق جبهة الخصم وتشتيت قواته وتطويقها، ومن ثم الحاق الهزيمة بها، وهذه الحرب تمتد من بضعة أيام إلى بضعة أشهر، وإذا زادت عن ذلك تصبح حرب إستنزاف، وينطبق تعريف الحرب الخاطفة على جميع الحروب العربية-الاسرائيلية. وهذه كلها إنتهت بعد أن تم مفاجأة الخصم وتشتيت قواته وحرمانه من الغطاء الجوي.
إنقضى ثلاثة عشر عاماً منذ غزو قوات التحالف للعراق سنة 2003 والعراق يزداد إنقساماً وتشتتاً وحروباً في كل يوم، أما اليمن فقد مضى عليه اثنى عشر عاماً وهو يعيش في حرب أهلية واقليمية نتجت عن تمرد الحوثي سنة 2004، وتوشك الحرب السورية على دخول سنتها السابعة، والحرب الدائرة في ليبيا منذ خمس سنوات، ما زالت مستمرة منذ الاطاحة بالرئيس معمر القذافي سنة 2011، ولا يبدو في الأفق أية إشارات تدل على أن أي من حروب الاستنزاف تلك ستنتهي قريباً، والمتابع لمجرياتها كلها منذ البداية يلمس وجود قوى إقليمية ودولية سعت إلى زيادة أمد تلك الحروب،ولم تسعى إلى إنهائها أو حتى السماح لطرف بالانتصار على الطرف الآخر،والدول العربية جميعها بدون إستثناء، أصبحت مشتركة في هذه الحروب سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وكلها تدفع ثمن تلك المشاركة بشرياً أو مادياً.
قد يبدو في الظاهر بأن تلك الحروب هي حروب عربية-عربية، فالدماء المسفوكة دماء عربية، والثروات والموارد التي تحرق في أتون تلك المعارك هي ثروات وموارد عربية، ولكن إذا وسعنا الدائرة قليلاً سنجد بأن الأطراف الغير عربية المشاركة في تلك الحروب، وهي أمريكا وروسيا وتركيا وإيران واسرائيل، لا يوجد طرف منها يسعى بشكل جدي إلى إنهاء أي من تلك الحروب، بل على العكس تماماً، سنجد تصريحات إعلامية إنشائية، تعلو تارة وتنخفض تارة أخرى فيما بينها، والتي تبدو مثلالرسائل المشفرة بين تلك الأطراف الخمسة، وكأنها كلها متفقة ضمنياً (على الأقل) إلى إطالة أمد تلك الحروب، وفي حين أن حرب الاستنزاف ينتصر بها من يمتلك الموارد البشرية والمادية الأكبر، نجد أن الأطراف الخمسة المذكورة لا تسعى إلى أن يكون هناك منتصر في هذه الحروب، فكلما ضعف طرف من أطراف تلك الحروب تسارع الدولة التي تدعمه إلى تقديم الاسناد والدعم له بالدرجة التي لا تجعله ينهار فينهزم، وفي نفس الوقت لا تجعله يقوى وينتصر.
فأمريكا التي استطاعت خلال شهر واحد وأسبوع واحد وأربع أيام أن تلحق الهزيمة بالعراق سنة 2003، الذي كان من المفترض أنه كان يمتلك (رابع قوة عسكرية في العالم)، تمثل دور الدولة العاجزة عن التدخل العسكري لحسم الصراعات في الدول العربية، وتنشر تقارير عسكرية عن آلاف الغارات التي شنتها خلال السنوات الماضية في سوريا والعراق ومؤخراً في ليبيا واليمن، دون أن تؤدي تلك الغارات إلى تغيير الواقع على الأرض، بل على العكس تسعى بشكل متعمد إلى دعم الطرف الذي يضعف في القتال حتى لا يهزم، وذلك حتى يعود ليقاتل وتستمر الحرب.
بالنسبة إلى روسيا فقد لعبت نفس الدور الأمريكي في سوريا، فهي لم تتدخل إلا في نهاية سنة 2015، أي عندما بدأ النظام السوري يتعرض للهزائم وأوشك على السقوط، وكان تدخلها بالدرجة التي لا يهزم فيها النظام السوري وفي نفس الوقت لا ينتصر، وروسيا فعلياً ستجد صعوبة في أن تقدم للرئيس السوري أكثر مما قدمت حتى الآن، وذلك لعدة أسباب منها انها تعاني هي نفسها من العقوبات الاقتصادية للإتحاد الأوروبي، وانخفاض سعر النفط الذي يشكل المصدر الرئيس للدخل في الدولة التي يفترض أنها ورثت الاتحاد السوفييتي، وكذلك تدخلها العسكري في شرق أوكرانيا، والضغط العسكري الذي تشكله لعبة شد الحبل مع حلف الناتو، والذي إضطرها إلى أن تنشر صواريخ بالستية في منطقة قطاع كاليننغراد المتاخم لبولندة لمواجهة إمتداد الحلف إلى دول شرق أوروبا.
بخصوص تركيا فإن سياستها المتناقضة ساهمت في تأجيج الحروب العربية، فالأتراك يحاربون الأكراد في أراضيهم وفي سوريا، ولكنهم في نفس الوقت يتحالفون معهم في العراق، وهم وقفوا إلى جانب الثورة السورية على الرغم من أن علاقاتهم مع النظام السوري كانت قوية وتتطور بسرعة، وعلامات الاستفهام ما زالت لم تجد إجابات عليها حول دور تركيا في وجود داعش الذي عاث فساداً في الدول العربية، وتخطى الحدود السورية والعراقية في عملياته ليصل إلى ليبيا واليمن وباق الدول العربية.
أما إيران فإن دورها لم يعد خافٍ على أحد، فهي قد عبرت بوضوح وبشكل عملي عن نواياها تجاه الدول العربية، والدور الذي لعبته في العراق كان يهدف إلى السيطرة على هذا البلد من كافة النواحي، وقد فعلت، واليوم العراقي ومعه اللبناني واليمني يتطوعون للذهاب لقتال أشقائهم السوريين دفاعاً عن مصالح إيرانية، وموارد العراق النفطية مسخرة لخدمة المشروع الايراني في المنطقة، فإيران تخوض حروبها اليوم في العراق وسوريا واليمن بدماء عربية وأموال عربية، وما مماطلة الحوثيين في اليمن، الذين يأتمرون بأمر إيران، وتسويفهم لمحادثات السلام اليمنية، إلا خدمة للمشروع الايراني الذي يسعى إلى إستنزاف السعودية بهدف إضعافها.
بالنسبة لاسرائيل فهي الطرف الذي ينتظر أنيقطف ثمار هذه الحروب العربية-العربية، والتي ستكون على شكل كيانات عربية ضعيفة ومشتتة، ومجتمعات عربية ممزقة ومتناحرة، لم يبقى لديها من مقومات الدول الناجحة شيء.
إن تدخل الدول الخمسة (أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل) في الدول العربية كان السبب الرئيس في إطالة أمد حروبها، وتحولها من ثورات شعبية إلى حروب أهلية إستنزافية، وما من شك بأنه لو لم تتدخل تلك الدول لكانت تلك الحروب العربية-العربية قد حسمت خلال بضعة أشهر أو حتى سنة واحدة على أقصى حد، ولو كفت تلك الدول الخمس يدها اليوم عن الدول العربية فإن تلك الحروب ستنتهي بأسرع وقت.
وفي حال إستمرت تلك الحروب سيجد العرب أنفسهم أمام واقع مرير، يضعهم أمام أحد خيارين، إما إستمرار الحروب العربية-العربية وإستمرار إستنزافهم بشرياً ومادياً إلى أمد لا يعلم منتهاه إلا الله، وإما تقسيم دولهم إلى كيانات سياسية هزيلة محكومة من قبل أمراء الحرب التابعين إلى أحدى تلك الدول الخمس، وفي كلتا الحالتين سيكون ترتيب الفائزين هو كما يلي:
1. إسرائيل وأمريكا
2. إيران وروسيا
3. تركيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى