ماذا يحدث في غزّة؟

#سواليف

ماذا يحدث في غزّة؟

إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب

” مقدِّمة”

مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠

في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟

وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠

الكاتب والأكاديمي #كمال_ميرزا من الأردن يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث #غزة”؟

غاية إسرائيل الإبادة والتهجير

كمال ميرزا/الأردن

الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف “المنظور” أو “النموذج الإدراكي” الذي يتم من خلاله النظر لما يحدث في غزّة، وموقف الشخص من الصراع، وقربه وبعده منه مكانيا ونفسيا ومعرفيا.

ولكن من قبيل الإجمال، ولو حاولنا تقمّص نظرة المُراقب المحايد الذي ينظر ويعاين من مسافة (وهذا صعب)، يمكن الإجابة عن سؤال “ماذا يحدث في غزة؟” كالتالي:

أولا: “الإبادة” والتهجير”.

1- على المستوى قصير المدى، أو آنيا أو تكتيكيا (سمّه أيّا شئت):

ليست إبادة بهدف التهجير (سبب ونتيجة)، بل الغايتان معا، الإبادة والتهجير.

الإبادة من باب الانتقام والتنكيل جرّاء الهزيمة الميدانية والمعنوية التي زلزل بها “طوفان الأقصى” الكيان الصهيوني يوم 7 تشرين أول/ أكتوبر.

والإبادة من باب إعادة بثّ الخوف والرعب من الكيان الصهيوني في قلوب الفلسطينيين والعرب بعد أن بدّدهما “طوفان الأقصى”.

والإبادة بهدف استعادة الثقة ورباطة الجأش لدى جبهة الكيان الداخلية التي تلقّت ضربة خلخلت أركانها وبعثرت أوهامها وانتشاءها بنفسها وقوّتها وحصانتها.

والإبادة من باب القضاء على أكبر تعداد ممكن من “الحاضنة الشعبية” للمقاومة، والتي لولاها لما أمكن أن تصل المقاومة لما وصلت إليه حتى هذه اللحظة.

أمّا التهجير فهو من أجل سلب المقاومة وحاضنتها الشعبية عامل القوة الأقوى في قبضتيهما: الأرض.

والتهجير تمهيد لتصفية القضية الفلسطينية وفرض تسوية نهائية.

2- على المستوى المتوسط:

تفريغ غزة ما أمكن من سكّانها من أجل إعادة ضمّها جزئيّا أو كليّا تحت سلطة الكيان و”سيادته”. وإعادة تعريف غزة، وإعادة رسم ملامحها عمرانيا وبشريا بما يهيّء “بيئة حاضنة جديدة” لمشاريع “السلام الاقتصادي” المزمعة.

تصدير “مشكلة غزّة” إلى دولة/ دول أخرى، كما أنّ الكيان الصهيوني نفسه هو في أحد أوجهه ثمرة لتصدير أوروبا مشكلة اليهود لديها.

3-على المستوى بعيد المدى:

تصفية القضية الفلسطينية، وفرض تسوية نهائية من بوابة “السلام الاقتصادي”، بموازاة استكمال التطبيع الكامل للعلاقات بين الكيان الصهيوني والدول العربية عموما، ودول الخليج “الثرية” التي ستموّل هذا السلام على وجه التحديد، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود صراع كامن أو “من تحت لتحت” ضمن نفس السياق ما بين “مشروع سعودي” و”مشروع إماراتي” وربما “شبه مشروع قطري” إذا جاز التعبير.

المزيد من حصار مصر، وتحجيمها، وتقزيمها، وإشغالها بنفسها، وتفريغ عوامل قوتها (الموقع والتاريخ والشخصية).. بكون مصر على المدى البعيد هي المصدر المحتمل لأيّ خطر ممكن أن يتهدد مشاريع الاستعمار والاستلاب والهيمنة الموجهة ضد العرب في المنطقة.

إعادة تعريف “الدور الوظيفي” للكيان الصهيوني في المنطقة بما يخدم مصالح وأولويات القوى الاستعمارية التي أوجدته وتدعمه وتديمه في ضوء الطور الحالي الذي يمرّ به النظام الرأسمالي العالمي.. وذلك بموازاة إعادة تعريف الدور الوظيفي لـ “الدولة” عموما في العالم، ولبقية الكيانات الوظيفية في المنطقة في مواجهة الكيانات التاريخية.

إعادة إنتاج النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة، ورسم ملامحه للمرحلة القادمة، في ضوء حروب الغاز والمعابر والتجارة الدولية، وفي ضوء المنافسة والضغط الشديدين اللذين تفرضهما قوى أخرى مثل الصين وروسيا ومجمل دول (البريكس)، لها خططها ومشاريعها وتصوّراتها الخاصة للمستقبل، وتحاول توسيع نفوذها و/أو إضعاف النفوذ الأمريكي من بوابة إعادة إنتاج النظام الدولي كنظام متعدد الأقطاب.

وحتى تكتمل الصورة هناك سؤال آخر لا بدّ من طرحه بموازاة سؤال “ماذا يحدث في غزة؟” هو:

ثانيا: لماذا يحدث في غزة ما يحدث في غزة؟

والجواب أنّ غزة وأهلها يدفعون ثمن أربعة عوامل يفترض في سياق آخر أن تكون نعمة لها وليس نقمة عليها وهي: الجغرافيا والجيولوجيا والديموغرافيا والانثروبولوجيا.

1- جغرافيا: إذا كانت فلسطين هي قلب الوطن العربي، وهمزة وصل مشرقه بمغربه، وهمزة الوصل البريّة بين قارتي آسيا وإفريقيا وعلى مرمى حجر من القارة “القديمة” الثالثة أوروبا، وهو الموقع الذي جعل الاختيار يقع عليها من أجل “دق إسفين” الكيان الصهيوني بحسب التعبير الدارج.. فإنّ غزّة هي “بوابة” هذا الموقع الاستراتيجي الهام، فهي بوابة مصر الشرقية إلى برّ الشام والعراق وسائر الجزيرة العربية، وهي بوابة الشام الغربية إلى مصر وسائر شمال إفريقيا (والأندلس إذا أردنا استحضار أمجاد غابرة).

كما أنّ غزة، حتى يزداد الطين بلّة، تقع على إحدى نهايتي قناة أو ممر “بن غوريون” الذي يُطرح بديلا عن قناة السويس (المشروع الإسرائيلي – السعودي معزّزا بنيوم وجزيرتي تيران وصنافير)، والذي هو بدوره جزء من خط التجارة الهندي/ الخليجي/ الإسرائيلي،/ الأوروبي الذي وقف “نتنياهو” يستعرضه بكل زهو في الأمم المتحدة، كمشروع منافس لمشروع “الحزام والطريق” الصيني.

2- جيولوجيا: شاءت الأقدار أن يكون لغزّة حصتها من احتياطيات الغاز المكتشفة شرق المتوسط، والدور الحساس الذي لعبه هذا الغاز في تحريك مجمل الأحداث التي اصطلحنا على تسميتها بـ “الربيع العربي”، والدور الحساس الذي يمكن أن يلعبه هذا الغاز فيما يتعلّق بالحرب الروسية الأوكرانية حاليا.. وعدم رغبة أي طرف من الأطراف بالاعتراف بحق “الغزازوة” والفلسطينيين بهذا الغاز وإعطائهم حصتهم فيه.

3- ديموغرافيا: الكثافة السكانية لغزّة، المعزّزة بشبكة أكثر كثافة ومتانة من الروابط الاجتماعية التي “تضرب بجذورها عميقا في المكان” حسب تعبير (زيجمونت باومان)، قد جعلت من غزّة “عائقا” أمام “السلطة” بالمطلق، سواء السلطة المباشرة للكيان الصهيوني كقوة احتلال أو قوة حصار، أو سلطة “رأس المال” ومرجعية “المصنع” و”السوق” ووعود “السلام الاقتصادي”، أو السلطة المعرفية التي تحاول تزوير التاريخ وتشويه الوعي وتمييع الإرادة.

4- أنثروبولوجيا: الشخصية الغزاويّة الصلبة والمرنة والمتجاوبة والخلاّقة في آن واحد، وكيفية اندغام الاجتماعي بالديني بالسياسي بالاقتصادي من أجل رسم ملامح هذه الشخصية وشبكة علاقاتها الاجتماعية الكثيفة والمتينة المشار إليها في النقطة السابقة.. كلّ ذلك جعل من الشخصية الغزاوية شخصية صعبة المراس عصية على الإخضاع والتطويع والاحتواء، وجعل منها هؤلاء “المقاتلين” وهذه “الحاضنة الشعبية” التي تستثير دهشة وحيرة العالم كلّه الآن!

5- معرفيا: بقي هناك جانب أخير يمكن التطرّق إليه هو الجانب المعرفي، حيث يمكننا باستخدام معجم مصطلحات الدكتور “عبد الوهاب المسيري” القول إنّ حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة هي “لحظة نماذجية” لتحقّق “المطلق العلماني” الغربي لدى “بينامين نتنياهو” وحكومة حربه واليمين الصهيوني المتطرّف بمشاربه القبالية والماشيحانية، وبصورة تفوق نماذجية اللحظات “النازية” و”الفاشية” و”الأنجلوسكسونية” السابقة.

حيث ينظر هذا “النموذج العلماني الشامل” الذي يؤمن بـ “الواحدية المادية” وينكر “التجاوز” و”تركيبية” الظواهر الإنسانية و”مركزية” الإنسان في الكون.. ينظر إلى كل شيء في الطبيعة بما في ذلك الإنسان “الطبيعي” “الاقتصادي” “الجسماني” كـ “مادة استعمالية” يمكن تسخيرها وتحريكها والتخلص منها وإفناؤها وإعادة تدويرها.

ومثل هذه النظرة إلى الحياة والغيب والإنسان والكون هي ما تجعل عبارة مثل “حيوانات بشرية” عبارة معرّفة ومنطقية ومنتجة لآثارها بالنسبة لأصحابها، وتجعل التلويح باستخدام القنبلة النووية مسألة “أداتية” “إجرائية” “بيروقراطية” تتسم بـ “الكفاءة” و”العقلانية” و”الترشيد”!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى