الحسبان يكتب عن العشيرة والدولة وما تلدان!!

 
عن العشيرة والدولة وما تلدان!!
د.عبدالحكيم الحسبان

 
عمان وأم قيس وجرش وشقيقاتها في العام 2021
في أخبار عمان وأم قيس وجرش وشقيقاتها من المدن والبلدات، تقرأ كما يقرأ ساكنو هذه البلدات العناوين التالية، كما ويناقشون مضامينها: أستاذ جامعي يحمل لقب Ph.D  أي دكتور في الفلسفة يطالب بعدد أكبر من المقاعد في مجالس أمناء الجامعات لأبناء العشائر في منطقته. وتقرأ أيضا أن أستاذا متخصصا في علوم الطبيعة يحمل أيضا لقب “دكتور في الفلسفة” ومن جامعة غربية يشكو الغبن الذي يقع عليه، لأنه لم يحصل على موقع العميد أو نائب الرئيس في “جامعة” “وطنية”، فتتداعى مجموعة من الرجال ممن يتشاركون مع الدكتور علاقات الدم أي القرابة، ليطالبوا بإنصاف “ابنهم” أي “ابن العشيرة”, فلم يعد الدكتور هو ابنا للأمة؛ أردنية كانت أم عربية أم إسلامية، بل هو ابن العشيرة، والعشيرة هي من تنصفه، وهي من تحصل له على حقوقه، في مواجهة الأشخاص الآخرين الذين هم وفق نفس المنطق أبناء لعشائر أخرى منافسة وحتما معادية، يسرقون حصة ابن العشيرة كما يسرقون حقوقه.
وفي أخبار عمان وأم قيس وجرش وشقيقاتها في العام 2021 تقرأ ويقرأ ساكنو هذه المدن والبلدات، عن نائب ينتمي إلى “مجلس” “الأمة” يهجم على مقار لشركة “أردنية” أقيمت وفق القانون على أرض أردنية، ولم يرد في القانون المنبثق من الدستور أنها أرض أو حمى لعشيرة أو طائفة، “منتصرا ” لأبناء منطقته أي عشيرته، ومطالبا بحصة من الوظائف والمنافع التي تولدها الشركة وحيث يقع صدام على مداخل الشركة بين النائب ورجال الأمن المناط بهم حماية مقار الشركة. وفق النائب كما الكثيرين من أبناء هذه البلاد، فإن المصنع المقام على أرضهم هو ليس بمؤسسة أو مصنع ينتمي للوطن كله، ويشغل عمالة تنتمي للوطن كله، ويدفع ضرائب تذهب لخزينة الوطن كله، بل هو كيان أو جسم غريب عن الأرض المقام عليها، ولا شي يتشاركه أبناء المنطقة مع هذه المصنع ومخرجاته، وثماره وعوائده.
وفي أخبار ذات المدن والبلدات وفي العام 2021 تقرأ عن مطالبات لعشائر الشمال كما الجنوب كما الوسط بنيت جامعات في مناطقها، يقول المنطق وواقع الحال أنها جامعات “وطنية” بمعنى أنها بنيت من أموال الخزينة العامة الوطنية أي تلك الخزينة التي يدفع جميع من يحملون جوازات السفر الأردنية واللذين يصفهم الدستور “بالأردنيين” كافة نفقاتها ورسوم الدراسة فيها، فتقرأ عن مطالبات لعشائر تطالب أن تكون رئاسة الجامعة، وحصة الأسد إن لم يكن جميع الوظائف فيها من نصيب أبناء العشيرة أو بضع العشائر التي بنيت الجامعة في مناطق حضورها.
هنا، الجامعة التي جاءت كترجمة للمفردة الأوروبية University   والتي اشتقت من مفردة Universe   أي الكون والشمول والتعدد والتنوع، وحيث الجامعة هي مكان يجمع ولا يخصص ولا يختص بعشيرة أو طائفة أو مجموعة، هنا الجامعة لم تعد جامعة، بل صارت حيازة عشائرية أو مناطقية. صحيح أن “الأمة” أي مجموع دافعي الضرائب من الشمال والجنوب والوسط هم من يدفعون موازنة الجامعات في كل البلاد، ولكن الخطاب المهيمن هو الذي يصر على رؤية “الجامعة” باعتبارها غير “جامعة”، وهي ليست ملكا للأمة بل هي حيازة من ممتلكات العشيرة أو المنطقة الصغيرة في أحسن الأحوال، وهي ليست مؤسسة “وطنية” على أي حال. وباختصار، لم تعد الجامعة أردنية ولم تعد “وطنية” أي أنها ملك للوطن كله وتخدم الوطن كله، وتعطي حقوقا وترتب واجبات متساوية على مجموع الناس المسمين “أردنيين”.
وفي أخبار عمان وأم قيس وجرش وشقيقاتها في العام 2021 تقرأ خبرا يكاد يوميا أو أسبوعيا عن حادثة دهس أو قتل، وحيث يفقد “الأردني” مواطنته ولا يعود أردنيا لحظة ارتكابه حادثة دهس أو ارتكابه لجريمة أو لحظة تعرضه لحادثة دهس أو ذهابه ضحية جريمة قتل. ففي هذه السياقات يكتشف الشخص أنه لم يعد أردنيا، وان مواطنيته باتت معلقة إلى حين وإلى أجل غير مسمى.
 ففي هذه اللحظة، تقرأ في عناوين الأخبار أن المرتكب والضحية باتا أبنين للعشيرة، وليس الوطن وبالتالي الدولة، وأن من يحمي ومن يحصل على الحقوق وهي بالتأكيد ليست حقوق متساوية، هي العشيرة، وبما أن الوزن العشائري للكتل البشرية ليس هو نفسه، فان حقوق الجاني والضحية ورغم تشابه الجريمة، فهي لا تتشابه، فموازين القوى هي التي تحكم. صحيح أن جواز السفر يقول أن هناك عشرة ملايين فرد يحملون تسمية “أردني” لأنهم يتشاركون الانتماء والعيش على نفس الأرض، وحيث الأرض فقط والانتماء للأرض أو الإقليم هو من يحدد الهوية وبالتالي مجموع الحقوق والواجبات. في النهاية أنا إبن لعشيرة ولست إبنا لوطن. ربما علينا أن نلتفت ونتمعن للجملة الأولى التي يتلفظها القاضي الفرنسي أو الأمريكي وهو يبدأ محاكمة مواطن أمريكي متهم بقتل مواطن أمريكي هو شريكه في الوطن وحيث العبارة المقدسة والثورية بالنسبة لي” باسم الأمة أفتتح وأبدأ هذه المحاكمة……”. في منطق الدولة الحديثة، كما في منطق دستورنا الأردني الموقر والحبيب، نحن أبناء للدولة، ونحن مخلوقات للدولة لمجرد أننا عشنا وانتمينا إلى أرض أسمها الأردن فترة من الزمن.
في العام 2021 وفي كثير من سياقات الحياة اليومية، نكتشف أننا لسنا أبناء لكيان  كبير وواسع ودولة أسمها الأردن. عندما نقتل أو نقتل(بضم النون) وعندما ندهس أو ندهس(بضم النون) نكتشف أن تعريفنا القانوني والحقوقي هو أننا أبناء لعشائر، وأن على العشيرة وبقدر ما تملك من قوة أن تأخذ حقنا عندما نكون الضحية أو تجعلنا نهرب من دفع الإثمان عندما نكون الجلادين، تهرب الدولة وتخذلنا في هذه السياقات وتقول لنا لستم أبناء لي.
وفي العام ذاته، أي في العام 2021 تقرأ عن لجنة ملكية لتحديث الحياة السياسية، هي أيضا لا ترى فينا أردنيين ينتمون لوطن أسمه الأردن ويتشابهون بالهوية لمجرد أنهم يتشابهون في التشارك لنفس الأرض أو الإقليم الجغرافي، فترى اللجنة أن الأردنيين لا يتشابهون وأنهم يتشكلون من مجموعات او جماعات مختلفة، وأن أحد مهام اللجنة أو توزع حقوقا أو تقرر واجبات وفقا لحقيقة أن العشرة ملايين أردني، هم ليسوا عشرة ملايين ذرة تتشابه بالمعنى الحقوقي أو المواطني. وعليه، فتكون مهمة اللجنة أن تحدد الحصص “العادلة” التي تستحقها كل مجموعة او عشيرة.
عمان وأم قيس وجرش وشقيقاتها في القرون الأولى الميلادية:
وفي كتب التاريخ والفلسفة تقرأ أن الأجداد الأوائل لسكان عمان حاليا (فيلادلفيا) وجرش (جراسا) وأم قيس (جادارا) وبعد أن قادوا البشرية إلى أكبر التحولات الثورية في تاريخها في الاقتصاد كما في التكنولوجيا والعلوم والمعرفة والعمارة، فشيدوا مدنا ذات تخطيط عبقري، وبنوا صروحا معمارية أشبه بالمعجزات، فقد تحولوا ولو جزئيا من كائنات العشيرة والطائفة إلى كائنات دولة وأبناء للمدينة الدولة وحيث باتت الدولة المدينة تتكون من خليط غير متشابه من الجماعات ذات الهويات القرابية المختلقة وذات الأصول الدينية المختلفة وحيث بدأ الحديث صاخبا في مدرجات هذه المدن وأزقتها عن تعريف المواطن، وعن تشابه المواطنين بالحقوق والواجبات .
في القرون الأخيرة قبل الميلاد كما في القرون الأولى للميلاد، كان أجدادنا ممن سكنوا عمان وأم قيس وجرش يناقشون طروحات أفلاطون وأرسطو حول مفهوم المواطنة، وفيما إذا كان الإنسان المولود هو مولود لأبويه البيولوجيين، وهو بالتالي يتبع لهما، وعلى أبويه أن يتحملا مسؤولية تربيته،  أم هو ابن للمجتمع أو المدينة أي الدولة، ما يعني أن كل مخلوق هو حتما إبن للدولة، وان من واجب الدولة أن تقدم له الحقوق المترتبة على هذه البنوة.
من حسن حظنا، أن عمان وجرش وأم قيس التي عرفت معنى الدولة وفكرتها، وعرفت معنى مخلوقات الدولة، وعرفت معنى أن نكون أبناء للدولة قبل الاف السنين، هي مدن تنتمي لنا، كما ننتمي لها، ولكن من سوء حظنا أن التاريخ لا يسير بصورة متصلة، ولا يسير بصورة تراكمية وتقدمية، فقد عدنا أو ربما هناك من يريد لنا أن نعود إلى ما قبل فيلادلفيا وجراسا وجادارا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى