التبرّع المشبوه!

#التبرع_المشبوه!

د. علي المستريحي

أثار تبرع أحد الذين أثيرت حولهم الشبهات لطلبة إحدى #الجامعات ردود فعل كبيرة في #الأردن، غالبها جدلي. وأكثر الشبهات التي تتعلق بالمتبرع تدور حول مصدر أمواله من جهة، ومن جهة أخرى حول اتهام الرجل بأن لديه أجندة وطروحات مشبوهة خطيرة أظهرتها بعض تغريداته ومقالاته التي دعا فيها جلياً (ولو وبشكل غير مباشر أحياناً) لفكرة أن يكون الأردن هو الوطن البديل. بنفس السياق، يرى الكثيرون أن الرجل لا ينفك يسعى للنفاذ لفئة الشباب تحديداً والتغلغل بهم لإغراقهم والتأثير بهم لخدمة أجنداته، مستغلاً الظروف القاسية التي يعيشونها، خاصة مع تزايد نسب البطالة بينهم لمستويات غير مسبوقة بتاريخ المملكة، ضعفت معها ثقتهم بمستقبلهم وجعلتهم بحالة يأس وعوز دائمين.

هذا، وقد جاءت أغلب الردود من فئة الطلبة أنفسهم وأهاليهم، بعبارات مثل: “جزاه الله خيراً، أما النوايا، فما لنا بها وحسابه عند ربّه”، “من يعترض على التبرع، فليشمر عن ساعديه ويتبرع”، “الذين ينظّرون بحرمة التبرع لا يعيشون الواقع”، وغيرها من العبارات التي تؤيد فكرة هذا التبرع المشبوه.

مقالات ذات صلة

وقد بات جلياً أننا أمام قضية أخلاقية بامتياز، نحتاج معها أن نضعها تحت المجهر في مختبر التشريح كي نفككها لنفهمها بعمق أكبر ونصل لاستنتاجات حولها.

أولا: ولتقريب الفكرة، نحن أمام حالة تشبه إلى حد كبير شراء بضاعة مسروقة (أو مشبوهة على الأقل)، وبثمن بخس، والمشتري على يقين من شبهتها. وحيث أن مصدر الأموال مشبوهاً، فالقضية من هذه الزاوية ليست مرفوضة أخلاقيا وحسب، بل يجرّمها القانون الأردني بالمجمل، مع أن الجانب التشريعي القانوني بمثل هذه القضية تحديداً قد تكتنفه بعض الضبابية ويحتاج للعمل عليه كما سأبيّن لاحقاً.

ثانيا: القواعد الفقهية الأخلاقية: “درء المفاسد أولى من جلب المنافع”، “تجنبوا الشبهات” و “ما تعافه النفس” لها مكان هام هنا ويمكن أن تفيدنا للفصل في هذه القضية وغيرها التي تشبهها. والرأي الراجح هنا أن هذا التبرع لم يكن بريئاً أو نظيفاً تماماً، وتحديداً بالنظر لطروحات الرجل التي يرفضها الشعب الأردني كله وقيادته، فضلاً عن خلفيته القضائية فيما وَصَلَنا من شبهات وتهم قضائية لاحقته (وهي بالمجمل تتعلق بتورطه في صفقات فساد وغسيل أموال سنة 2011 على خلفية شكوى من دائرة غسل الأموال في البنك المركزي الأردني إلى المدعي العام بقيمة تناهز 100 مليون دولار، حيث وضع مدعي عام محكمة عمان إشارة الحجز التحفّظي على أمواله المنقولة وغير المنقولة حينها، ذلك كله إضافة إلى قضايا أمنية أخرى بين عامي 97-1999 منها التزوير الجنائي وصدور خمس مذكرات توقيف بحقة من محكمة السلط خلال تلك الفترة). هذا كله يؤكد شبهة مصدر أموال الرجل. وإذن، فالقضية ليست قضية “نوايا بينه وبين ربّه” كما يرى البعض، بل فِعلاً مشبوها جلياً وواضحاً وقضية مجتمعية حقوقية أخلاقية بامتياز.

ثالثا: إذا قبلنا جدلاً أن المتبَرَّع له “مضطراً ومحتاجاً”، فهذا يعني أنه علينا أن نقبل بنفس الفتوى لتحليل الربا مثلاً أو تبرير فعل استغلال الناس تحت وطأة حاجتهم. ومن المفيد هنا التمييز بين ما هو “أخلاقي” وما هو “قانوني” وما هو “أخلاقي قانوني” وما هو ليس هذا ولا ذاك. فقد يكون الأمر مرفوضاً أخلاقيا، لكنه قانوني (كالربا مثلاً. باعتبار الدين جزء من المنظومة الأخلاقية للمجتمع). وعليه، فقد يكون التبرع الذي قدّمه الرجل قانونياً (مثلا قد لا يشترط موافقة رئاسة الجامعة أو مجلس أمنائها على التبرع)، لكنه بكل تأكيد غير أخلاقي. ومن المعلوم أن النصوص القانونية مستمدة من منظومة الأخلاق المتفق عليها بأي مجتمع محلي أو إنساني (من بين مصادر أخرى)، لذا، فعدم تجريم السلوكيات غير الأخلاقية (مثل هذا) هي بالأصل مشكلة تتعلق بقصور القانون نفسه (هناك قنوات مؤسسية بأي مجتمع يتفق الفاعلون فيه على تحديث منظومته القانونية لاستدراك ما فاته منها أو لاستيعاب المستجدات/القضايا الأخلاقية التي تواجهه). أما الأخلاق فهي تتميز بالثبات العام، كما أنها المعيار الذي يتم حساب الفرد على أساسه يوم الدين حال تطابقت القاعدة الأخلاقية مع الدينية مثل الحالة التي نشرّحها هنا). يعني ذلك بالمختصر، أن الناس محاسبون أمام الله على قبولهم التبرع المشبوه، ولم لم يحاسبهم القانون لقصور فيه!

رابعا: مرة أخرى، إذا قبلنا جدلاً أن المتبَرَّع له “مضطراً ومحتاجاً”، فالغاية لا تبرر الوسيلة. ونتساءل: لماذا يقبل الناس بأقصر الطرق لتلبية حاجاتهم بقبول تبرع مشبوه، وهو أصلاً، وبكل الأحوال، حل غير مستدام، وقد يعني اعتياد الفرد على قبول التبرع، ولو كان مشبوهاً، لتلبية كل حاجاته الكثيرة والمتجددة، فذلك يحوّل الفرد إلى مستجْدٍ لكل متبرع (أخلاقي أو غير أخلاقي)، فيصير غير منتج وعالة على نفسه ومجتمعه. بيد أن الأخطر هنا هو أن ذلك كله يؤدي بمرور الوقت إلى خلق ثقافة مجتمعية جديدة تقبل فكرة التبرع المشبوه باعتبارها سلوكا عادياً. هذا من جانب، ومن جانب آخر، وفيما يتعلق بأقصر الطرق هذه، نتساءل: لماذا لا يطالب الناس بالتغيير للحصول على حقوقهم الطبيعية (كالتعليم مثلاً في هذه الحالة) ويحاسِبون الحكومة على تقصيرها، بدلاً من الارتهان لجشع بعض المتبرعين الذين يطمحون للحصول على أضعاف ما يقدمونه من تبرعاتهم وقد يصل الأمر لبيع مستقبلهم كله! لذا، مَنْ نطقتْ ألسنتهم بالقول: “شمّر عن ذراعك وتبرّع”، نقول لهم نحن مثلكم، نرسل أبنائنا للمدارس والجامعات وندفع لهم، فهم مسؤوليتنا ولا نلقي بهذه المسؤولية على غيرنا من هم مثلنا ليدفعوا عنا. نحن نطالب بالتغيير من أجلنا وأجلكم، ونحن لسنا بديلاً عن الحكومة. ونقول، إما أن تتكفلوا بتكاليف تعليمكم وأنتم صاغرين ساكتين أو تُسمِعون أصواتكم لأولياء أمركم مطالبين بحقوقكم. وحول هذه الحالة تحديداً، والتي نحن بصدد تفكيكها وتحليلها، فقد وَصَلَنا أن الجامعة لا تملك الحق قانوناً بحجز شهادات خريجيها، ويمكن لهم متابعة هذا الأمر مع جامعاتهم للحصول على شهاداتهم ولو وصل الأمر للقضاء. مرة أخرى، من المحزن أن يختار الناس الطريق الأقصر والأسهل، ولو كان معيباً، عن أن يتتبّعوا أصل المشكلة ويطالبون بمحاسبة المتسببين بهذا التردي لانتزاع حقوقهم التي تآكلت على مدى عقود ودون منّة أحد.

خامسا: إذا كان مصدر أموال المتبرع مشكوكاً فيه، وكان هدف التبرع غسل أموال المتبرع لتكون “حلالاً”، فقبول التبرع هنا يساعد المتبرع في فعلته المشينة، وبالتالي المساعدة بإفشاء الفاحشة (بالنسبة للطلبة، يعني الأمر ببساطة قبولهم بتخليص شهاداتهم والحصول عليها بمال قذر!).

ردود فعل غالبية الطلبة والأهالي ومعهم أطراف أخرى من الداعمين لهذا التبرع المشبوه، تنم عن فهم قاصر، مغلوط، ضبابي ومتداخللديهم لفلسفة ومبادئ الأخلاق التي يجب ألا يختلف عليها عاقلان. وقد نفهم هذا في سياق الغياب شبه التام لتعليم هذه المبادئ بكل المراحل التعليمية، وبكل مادة ومساق ابتداء من الصفوف الأساسية الأولى لنهاية التعليم الجامعي العالي. وذلك بكل الأحوال يعبر عن حالة التردي التي نعيشها بكل زاوية من زوايا حياتنا حتى وصل الأمر عند البعض (بهذه القضية مثلاً) لاعتبار هذا التبرع المشبوه مسألة “وجهة نظر وقناعات شخصية”! وأتساءل هنا: هل وصلنا لمرحلة من التردي للحدّ الذي أصبحت فيه الأخلاق وجهة نظر؟!
أخيراً، ندرك تماماً الضغوط المادية الكبيرة التي يعانيها الناس (بحالتنا هنا الطلبة وأهاليهم)، لكن الأصل دائما ألا نقابل الخطأ بخطأ والسيئة بالسيئة (“وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” فاطر/17). ونقول أن على المثقفين والمتنورين وأصحاب الرأي ألا يدعموا فكرة التبرع المشبوه، أو يشيدوا فيها ويباركوها تحت أي ظرف وبأي ذريعة كانت، بل من واجبهم الاستمرار بالتأكيد على رفضها، وإلا أصبحوا هم أيضا أداة “لتبييض” السلوك الفاسد، ومنشفة لتجفيف ما علق بالفاسدين من شبهات وشوائب وغسلٍ لأموالهم القذرة، فتساووا بالجرم مع الفاسدين. كما أن حياد الجامعات حيال هذا التبرع بذريعة أنه لا يتطلب موافقتها، لا يعفيها من تحمل مسؤولياتها الأخلاقية أبداً، فتقديم مثل هذه التبرعات يتم من خلالها، ومن بوابتها، وهي شاهدة عليها، ويتم من خلال أنظمتها، وتتعامل معه أجهزتها. وبالرغم معرفتنا بظروف الجامعة المالية الصعبة، إلا أنه كان الأسلم لها أن تبحث عن أي باب لتغطية مبلغ التبرع على أن تترك طلبتها لابتزاز أصحاب الأجندات المشبوهة لاستغلال حاجاتهم وعوزهم وعسرهم. وفي هذا، أوصي جامعاتنا كلها بتطوير نظم وإجراءات خاصة تفصيلية تحدد شروط التبرع لها أو من خلالها، وخاصة فيما يتعلق بمصدر تلك الأموال والبحث المعمق للكشف الدقيق عن شخصية المتبرع وغاياته من التبرع، هذا إذا افترضنا أن مثل هذه القواعد غير موجودة أصلاً بالقوانين الأردنية أو هي موجودة ولكنها غير كافية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى