ما يجري في الدومينيكان / ميس داغر

ما يجري في الدومينيكان

أبو ربحي، حلّاق مدينتنا الشهير، طالما ساورهُ قلقٌ عميقٌ تجاه ما يجري في جمهورية الدومينيكان. لكنّ مشكلته الحقيقية .. هي أنّ لا أحد في هذه البلاد يظهر عليه الإكتراث بما يجري في الدومينيكان.
يُخالطُ أبو ربحي يومياً الرجالَ والنساء، الكبار والصغار، الغادين والرائحين. يتابع أحاديثهم بانتباه كبير، علّه يستشفّ لدى أحدٍ منهم قليل اكتراث بما يجري في الدومينيكان، إلا أنه لا يلقى ومنذ فترة طويلة سوى خيبة الأمل. فلا يظهر على الإطلاق أنّ أحداً في هذه البلاد يكترث لما يجري في تلك الجمهورية.
يُفكّر أبو ربحي بحيرة شديدة “لو كان ما يحدث في الدومينيكان يجري على كوكب آخر لفهمنا عدم الإكتراث الذي يظهر على الناس، لكن مجرد أن تكون جمهورية الدومينيكان في النصف الآخر من نفس الكوكب، هل يُشكّلُ هذا مبرراً كافياً لعدم اكتراث الناس هنا بما يحدث هناك؟!”.
نوى الرجل مرات عديدة سؤال أهل بلادنا –عامّةً ومسؤولين- عن سرّ عدم اكتراثهم بما يجري في الدومينيكان، لكنه ظلّ يتراجع في كل مرة عن توجيه السؤال. لقد لاحظ منذ فترة أنّ الناس هنا يتجنّبون، بشكلٍ مُريبٍ ومُحيّرٍ، التطرّق بأي شكل لما يجري في تلك الجمهورية، مع أنهم يتحدثون بأريحية حول ما يجري في الدول الأخرى. إنه لا يخفى عليه التوتر والتعرّق اللذان يصيبان كل مواطن في بلادنا بمجرد أن يشعر أنّ الحوار قد يجرّه باتجاه الأحداث الجارية في الدومينيكان. لهذا فهو حذر من فتح هذا الموضوع مع أي شخص.
ركّزوا جيداً إن كنتم لم تدركوا بشكلٍ دقيق مشكلة أبو ربحي: صحيحٌ أنه قلق جداً تجاه الأحداث الدائرة في الدومينيكان، إلاّ أنّ “عُقدته الحقيقية ليست فيما يحدث هناك، فما يحصل هناك قد يحصل في أي بلد آخرٍ مُتأزّمٍ، بل إنّ عُقدته هي في حالة التجاهل الغريب التي يُبديها أهل بلادنا تجاه بلدٍ مثل الدومينيكان، يمرّ بأحداث لا يُمكن التغاضي عنها “.
يقضي أبو ربحي نهاراته يقبرُ السيجارة تلو الأخرى بكآبةٍ عميقة. في نفس الرجل أسىً عظيم. لقد أعياه التفكير وحيداً في أحوال جمهورية الدومينيكان. يتساءل إن كان الناس في البلاد الأخرى أيضاً لا يكترثون لما يحدث في تلك الجمهورية، أم إنّ هذا يحدث لأهل بلادنا فقط.
فكّرَ أنّ هذه اللامبالاة تجاه أحداث الدومينيكان قد تكون حبيسة مدينته وحدها، فطاف مدنناً وقرى ومخيمات عدّة، منقبّاً عن أثر اهتمام في بلادنا تجاه الموضوع، إلا أنه لم يجد الحال مختلفا. قلّب القنوات الإخبارية على اختلافها، يوميا، فلم يجد اكتراثاً كبيراً بأحوال الدومينيكان، فقد طغت أخبار البلدان الأخرى على أخبارها. فكّر بينه وبين نفسه “ولماذا نتوقع من فضائيات الدول الأخرى الإكتراث لأمر تلك الجمهورية، في حين أنّ أهل بلادنا، وهم الأجدر بهذا، لا يكترثون!”.
بات نشاط أبو ربحي اليوميّ يتأثر بهمّه هذا، ولم يعد بمقدوره التركيز كما يجب في عمله. على كل حال، بما أنّ حركة الزبائن خفّت بشكلٍ كبيرٍ على صالونات الحلاقة منذ مدة، فإنّ هذا الوضع صار يمنح الرجل فرصة أفضل للتفكير مليّاً في مسألة الدومينيكان.
في كل ليلة، يسرح خيال أبو ربحي طويلاً في السماء، يتأمل عظمة الكون واتساعه، يستشعر بُعد وبرودة أجزاءه الموغلة في الزمن، فينقبض قلبه ويغصّ بالقهر وهو يفكّر كيف أنّ لا إشارة من أعماق الكون تُوحي باكتراث كائن ما، ولو على بُعد مليارات الأميال، بالأحداث الجارية في الدومينيكان. أحياناً يُخيّل لأبو ربحي- والذهول يكتسحه- أنّه حتى السلطة والمعارضة الدوميناكيتان ليس لديهما أدنى اكتراث بما يجري في الدومينيكان! هذا الشعور المُتخيّل وحده كان كفيلاً بسحق قلب الرجل.
ليلة البارحة فقط، هدأت أخيراً نفسُ أبو ربحي وانحلّت عقدته. فقد شاهد على الشاشة مسؤولاً حكومياً من بلادنا يبدي أسفه العميق تجاه الأحوال في دول أمريكا اللاتينية عموما، التي آلت إلى الأسوأ في تاريخها. وكان هذا التصريح كافٍ بالنسبة لأبو ربحي كي يفهم من غير ذرّة شك واحدة أنّ المسؤول يقصد بأسفه -ضمنياً وبشكلٍ خاص- جمهورية الدومينيكان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى