الأردني بين الديمقراطية والعشائرية / د. هاشم غرايبه

الأردني بين الديمقراطية والعشائرية

يكاد الأردن أن يكون الدولة الوحيدة التي تتبنى العشائرية بشكل رسمي منهجي .
وفي الوقت الذي يعتبره الكثيرون متقدما في مسار (الدمقرطه) مقارنة بما يجاوره ويناظره من دول، فقد لا يفطن أحد الى التأثيرات السلبية لولاء الفرد للعشيرة أو القبيلة بدلا من الولاء للمجتمع، وتناقض اشكاليات البنى العشائرية المجتمعية مع بنى المجتمع المدني الحديث في الدولة الديمقراطية.
عندما تأسست الدولة الأردنية تحت مسمى إمارة شرق الأردن عام 1920، جاء ذلك بعد فترة ضعف الدولة العثمانية وما صاحبه من فساد وإهمال لمصالح المواطنين، فكانت الفوضى الأمنية مبررا لتكتلات العشائر الأردنية لتشكيل حماية للفلاحين في وجه غزوات البدو المدمرة لمحاصيلهم التي هي قوام حياتهم الوحيد.
لذلك رحب الأهالي بالأمير عبدالله كونه ابن الشريف حسين، وتوحدوا على القبول بحكمه، لكنهم لم يكن لديهم تصور حول علاقته بالإنكليز، فكانوا يتصورونهم أصدقاء لوالده وحلفاء داعمين له، يحمونه من آل سعود الذين لاحقوه الى الأردن، فقامت الطائرات البريطانية بإبادة القوات المهاجمة في منطقة زيزيا جنوب عمان، وبعدها لم تحدث أية هجمة أخرى، فقد فهم ابن سعود أن الهاشميين باتوا في حمى بريطانيا.
بدأ الأمير عبدالله بتوطيد أركان حكمه في ظروف عصيبة، فلم يكن يملك المال لتشكيل قوات لتفرض هيبة الدولة، لذلك اعتمد على البريطانيين في ذلك، سريعا ما اكتشف الأهالي أن هؤلاء ليسوا مجرد مستشارين حول الأمير، بل هم الحكام الفعليين، وحدثت الإحتكاكات حينما كانت الدولة تضايق من كانوا يعبرون الحدود للإنضمام الى الإستقلاليين في سوريا، والمجاهدين في فلسطين، فبدأت العشائر تستعيد لحمتها وتعقد المؤتمرات الوطنية لتطالب بشروطها الوطنية.
لذلك لم يشعر الأمير بالإطمئنان الى ولاء الأهالي، فبدأ بناء على نصائح الإنجليز بسياسة تأليف القلوب، بتقريب البعض من الطامحين الى الشيخة في عشيرتهم، لصنع قيادات بديلة، ونجح في معظم الحالات بإحداث قلق ليتراكض بعض الشيوخ لإظهار الولاء خوفا من استبداله.
هذه هي الجذور الحقيقية لترسيخ العصبية العشائرية، وبدأت الرابطة الوطنية تضعف بمقابل الروابط الجديدة المصنوعة لتفتيت اللحمة الإجتماعية مثل الجهوية والمناطقية وتقسيم المواطنين حسب سكناهم الى (مواشي) أي يمشون حسب توجيهات الأجهزة الأمنية، أو (عاصين) يلزمهم التأديب.
خرج الإنجليز عام 1956 وجاء بدلهم الأمريكان، في الأردن كما في باقي دول (سايكس – بيكو)، لكن نظام الحكم لم يتوقف عن استثمار العشائرية، بل استمر تعزيزها بتورث المحاسيب، والى اليوم يتم اختيار الوزراء وكبار الموظفين من ابناء وأحفاد الموالين الأوائل.
ومع ذلك فقد ترعرعت في الأردن نخب سياسية مثقفة، منها ما هي ذات منشأ محلي وأخرى مطعمة بالايديولوجيات العابرة للحدود، وبقيت علاقاتها مع السلطه وتاثيرها في الشارع في مد وجزر، حيث بلغت أوجها في الخمسينيات من القرن الماضي حينما تشكلت أحزاب كانت تتبنى الأفكار القومية والماركسية والاسلامية، وقادت الشارع متخطية الحواجز العشائرية، بل تمكنت من تحويل البنية العشائرية الى تنسيق وطني، فحدثت اجتماعات ذات برامج وأجندات تحررية وطنية، وكونت كوادر جهادية لدعم الثوار الفلسطينيين، متخطية قيود ومضايقات الدولة الأردنية بحكم تبعيتها لبريطانيا.
وعندما خبت جذوة الحماسة للناصرية التي كانت عنوان فترة المد القومي بعد هزيمة 67، ارتفعت شعبية التيار الاسلامي بشكل متسارع ليصل ذروته في أواخر الثمانينيات، حيث عادت النخب السياسية لتحرك الشارع الأردني وتتجاوز الحواجز العشائرية مرة أخرى، وقد كانت الأصوات الهائلة التي حصدتها في الانتخابات النيابية عام 1989 مقارنة بأصوات رجالات العشائر (الحلفاء التقليديين للحكومة)، مدعاة لقلق النظام، فجاءت النجدة من السفارة الأمريكية، بشكل قانون الصوت الواحد، الذي آتى اكله سريعا في أول انتخابات تالية، حيث استبعدت غالبية النخب السياسية ومعظمهم من الاسلاميين لتحل محلهم القيادات العشائرية الموالية.
من هذه المقاربة الأولية نستنتج أن هنالك تناسب عكسي بين تنامي العشائرية والتنمية السياسية، وفي المقاربات التاريخية في مقالات لاحقة سأحاول أن أوضح هذه العلاقة بالتفصيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى