الأردنيون في مهب الريح

الأردنيون في مهب الريح
د. لبيب قمحاوي

تكرار الحديث في الشأن الأردني أصبح أمراً ممجوجاً لأن أولي الأمر لا يكترثون على ما يبدو لما يريده الأردنيون أو ما لا يريدونه سواء بسواء . أولويات الدولة أصبحت محصورة بالنظام فقط ، وإكتسبت على مّر السنين قداستها الخاصة بها وإلى الحد الذي جعل مرجعية أي مسؤول محصورة بإرضاء المسؤول الأعلى منه رتبة وشأناً وهكذا ، مما أفقد الكثيرمن الأردنيين الأمل في التغيير والتحديث أو حتى القناعة بجدواه ضمن أجواء الخنوع والإستسلام السائدة .
مشكلة الأردن لا تكمن في النظام حصراً بقدر ما تكمن أيضاً في الشعب الأردني نفسه . فالأردني لا يسعى الى بناء نفسه ومستقبله بقدر ما يسعى الى الحصول على الوظيفة في الدولة أوالقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية . فالراتب الشهري بالنسبة للمواطن الاردني هو الأمان والضمان في أجواء غير مستقرة إقتصادياً وسياسياً ضمن منظومة ثقافية واجتماعية وعشائرية تقبل بهذا المنظور بل وتعتبره حقا للمحكوم على الحاكم .
أما بالنسبة للمكتسبات المرتبطة بالوظيفة أو المنصب ، فإن أحد أهم المكتسبات وهواللقب قد أصبح بحد ذاته معادلاً للهوية بالنسبة للعديد من الأردنيين الطامحين ، خصوصاً لقب “معالى ” أو “عطوفة ” . والحصول على هذا اللقب أصبح هو المقياس الأهم بالنسبة للأردنيين وهو حلم معظم الأردنيين حتي أنه فاق في أهميته الألقاب العلمية مثل ” دكتور ” والتي يعتز بها صفوة خبراء وعلماء الأمم الأخرى .
لقد استوعب النظام هذا الوضع وابتدأ مبكرأً في مسار طويل يهدف الى السيطرة على الشعب وتدجين ارادته ومطالبته بالخضوع والولاء التام كثمن مطلوب دفعه مقدماً مقابل حصوله على الوظيفة أو المنصب وما قد يرافقهما من لقب أو إمتيازات أو مكاسب . إن جعل اللقب جزاً من الشخصية الأردنية ، وإعتبار الحصول عليه مقياساً للنجاح والتميز ، هو أمر سعى النظام الأردني الى تكريسه كأحد أدوات السيطرة على القيادات السياسية والاجتماعية في الأردن ، وتم إستعمال أدوات مثل لقب ” باشا ” في الحقبة المبكرة لإنشاء الدولة ولقب “معالي” لاحقاً ، كموشر على التميز السياسي والاجتماعي .
إن بناء علاقة الدولة بمواطنيها على أساس دورها الريعي التوظيفي ضمن سياسة تقديم الهبات والأعطيات والمكرمات ، وقدرتها على فعل ذلك باستمرار كوسيلة لخلق الولاآت وشراء الضمائر ، سوف يؤدي بالضرورة الى خلق مجتمع لا يسعى الى البناء والتطوير بل الى مجتمع ينظر الى الدولة بإعتبارها جهاز توظيف وباعتبار الوظيفة والدخل المترتب عليها أو اللقب المرافق لها أو كليهما هي الترجمة الوحيدة الهامة في علاقة المواطن مع الدولة . إن مثل هذه العلاقة أدت الى تحويل الدولة من دولة عصرية انتاجية الى دولة ريعية تعتبر أن مهمتها الوحيدة هي خلق وظائف ومناصب لمواطنيها مبتعدة بذلك عن مفهوم المجتمع التنموي الانتاجي لصالح المجتمع الريعي . وهذا الأمر قد إستدعي بالضرورة تعديل مسار التنمية في الدولة مما عزز من قدرتها على استيعاب المزيد من المواطنين من خلال توفير الدخل اللازم لتمويل عملية التوظيف المتنامية و بالتالي تبرير مفهوم الضرائب الجبائية لتمكين الدولة من الاستمرار في توظيف من تريد من المواطنين وفرزهم بشكل يسمح للنظام باستيعاب الأكثر قدرة على خدمته والانصياع له .
من الطبيعي أن يدافع أي نظام عن مصالحه ، ولكن من غير الطبيعي أن يتجاهل أي شعب مصالحه ويسمح لبعض أبناءه بالتضحية بها مقابل مكاسب شخصية لا قيمة حقيقية لها . فإذا كان الشعب على إستعداد لأن يتنازل عن حقوقه مقابل مكاسب تافهة مثل المنصب واللقب والجاه التي لاتعني شيئاً على أرض الواقع ، فإن النظام الحاكم لذلك الشعب لن يتردد أبدأً في إستغلال مثل ذلك الاستعداد من أجل لهيمنة على الحياة السياسية والسيطرة الكاملة على الدولة ومقدراتها ومؤسساتها وأجهزتها .
يقف الأردن الآن على ساقٍ واحدة في الوقت الذي تتطلب فيه الاوضاع السائدة القدرة على الركض على ساقين متماسكتين ضمن جسم واحد قوي . الاردن بحكومة وبلا حكومة في وقت واحد ، تماماً كما أنه بدستور وبلا دستور في نفس الوقت . لا أحد يعلم ماهو قادم ، والجميع ينحني أمام ماهو قائم ، وكل ذلك خوفاً من المواطن على مصالحه ورغبة من كل أردني طامح ، وهم كثر ، في ابقاء اسمه أو إسمها متداوَلاً على قائمة المحظيين والمفضلين . معظم قيادات الشعب الأردني على إستعداد لمقايضة مصالح هذا الشعب الوديع مقابل مكاسب منصبية . الكل يتذمر من الفساد ولا أحد يفعل شيئاً ، والكل يشكو من الانهيار الاقتصادي ولا أحد يبادر ، والكل يتَرحَّم على الدستور ولا أحد يرفع صوته إلاَّ مَن رَحِمَ ربي ، والجميع يشكو من اقتصار دائرة المحظيين الحاليين على أبناء وأحفاد المحظيين السابقين ، وكل ذلك ليس دفاعاُ طاهراً عن الشفافية وتكافؤ الفرصة بقدر ماهي رغبة في فتح الطريق للوصول الى المنصب أكثر من أي شيء آخر.
هنالك انحدار واضح وملحوظ في مستوى القيادات السياسية الرسمية في الأردن نتيجة لإخضاعهم لعملية التدجين المستمر والولاء المفروض على مدى عقود متتالية جعلتهم إمتداداً لظل الحاكم أكثر منهم قادة سياسيون يعبرون عن آمال ومصالح شعبهم . وبلغ الأمر من السوء َحداَّ جَعَلَ الكثيرين من الأجيال الجديدة من الأردنيين تترحم على رجولة زعماء الأجيال السابقة وقدرتهم على الرفض أو القبول طبقاً لقناعاتهم الوطنية ، وليس خضوعاً لأمر الحاكم أو للمصالح الشخصية الضيقة . والأمر لم يقف عند حدود الأشخاص ، بل تعدىَّ ذلك الى مؤسسات الدولة .
إن تردى أوضاع العديد من مؤسسات الدولة والتي شهدت نجاحات ملحوظة في السابق ومنها التعليم والصحة والتعليم العالي ومصفاة البترول والكهرباء والمياه والفوسفات والبوتاس ومؤسسات الدولة البيروقراطية وغيرها وهبوط مستواها ومستوى الأداء فيها هي نتيجة حتمية لذلك الوضع وما نتج عنه من سياسات وممارسات وفساد مستشري . إن البكاء على الأطلال والقاء اللوم على الآخرين لن يفيد في هذه الحالة ولن يؤدي الى الإصلاح . المرض من داخلنا ، وأنانية الفرد خصوصاً إذا أصبح مسؤولاً دون كفاءة أو دون وجه حق لن تؤدي إلا الى الخراب . وقد يثير مثل هذا الكلام حفيظة البعض ممن ينطبق عليهم الوصف ، ولكن هذا لن يؤدي الى صلاح الحال أو الى إصلاحه إلا إذا تم استبدال الدولة الريعية بالدولة العصرية الديموقراطية المنتجة ضمن أطار ومفهوم دولة المواطنة المتكافئة والمؤسسات الفاعلة وليس إعادة انتاجها كما يطالب البعض .
إن ما ورد أعلاه لا يهدف الى تبرئة النظام من دم يعقوب بقدر ما يهدف الى ايضاح الأسباب و المسببات التي مَكَّنًت النظام من تجاوز حقوق الأردنيين الدستورية والاستخفاف بمطالبهم وآمالهم وأحلامهم وأدّى بالنتيجة إلى دفع الأمور بإتجاه سيطرة النظام على كافة المؤسسات الدستورية من تنفيذية وتشريعية وقضائية . وقد رافق كل ذلك عملية تدجين واضحة للمسؤولين وعلى كافة المستويات وبشكل جعل معظمهم بما فيهم رئيس الوزراء وهو صاحب الولاية التنفيذية دستورياً إما غير قادرين أو غير راغبين بإتخاذ قرارات هامة أو استراتيجية خوفاً من فقدان مناصبهم أو الخروج من قائمة المحظيين أو المرضي عليهم ، ومعظمهم تخلوا طوعاً عن ولايتهم .
وهكذا ، فإن النظام الذي تطور من الفردية الى المؤسسية يعود الآن من المؤسسية الى الفردية وبرضا وقبول الطبقة السياسية الأردنية عموماً .
السؤال الآن ماذا يريد الأردنيون ؟ الوظيفة والمنصب واللقب على حساب المستقبل ؟ أم المستقبل على حساب الوظيفة والمنصب واللقب ؟ علماً أن الوظيفة لا تعني في هذه الحالة الحق المشروع في العمل بل الرغبة في الحماية التي يوفرها الراتب الشهري ومن ثم التقاعدي بغض النظر عن العمل نفسه أو عن قدرة الدولة على الاستيعاب الوظيفي الحقيقي أو طبيعة الوظيفة ومدى الحاجة إليها ، وهو ما نعيش تبعاته الآن بعد أن فقدت الدولة معظم مواردها التي تم استعمالها لدفع الرواتب والمكرمات والأعطيات والهبات عوضاً عن تمويل مشاريع التنمية خصوصاً بعد أن سقطت العديد من المشاريع الوطنية مثل البوتاس والفوسفات والملكية الأردنية وغيرها في براثن التوظيف الجائر وبالتالي الإنفاق غير المنتج والمديونية الباهظة والضرائب الجبائية لتمويل ذلك المسار الريعي البائس .
الأردنيون الآن أمام تحديات خطيره قد يكون أكثرها وضوحاً في المرحلة القادمة الإلتزام بصفقة القرن وسياسة التطبيع العربي الشامل والمجاني مع اسرائيل دون أن يكون لدى الأردنيين في ظل هذا الوضع البائس والمتردي وسيلة لمنع حدوث ذلك أو وضع حد له أو لنتائجه السلبية . إن هذه التحديات السياسية ، وما يرافقها من تحديات اقتصادية وتنموية تتطلب من الأردنيين نمطاً جديداً من التفكير والعمل بحيث يتم اعطاء الأولويات الوطنية والوحدة الوطنية الصدارة على أية مطامح أو مطامع شخصية منعاً لحتمية الزوال فيما لو قام الاردنيون بالاصرار على الأولويات الخاطئة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى