أبو عرب .. نموذج بشري
بعض النماذج البشرية تبقى في الذاكرة ، متناثرة ولكنها مؤثرة ، تنفلت من أغوار العقل إلى سطحه ، فجة بدائية وصادمة ، لا تخضع لتجميلات الراوي ، أو شطارات الرواية ، صورها متدافعة ، قد تتحور مؤقتا ، لكن أصلها ثابت ، يقوده ويقيده مبدأ اللذة ، وقوة اللون . وحتى نتفادى الألم وما ينجم عنه من صدمات فإن العقل يحاول توضيب ما يستطيعه ، وتهذيب ما يمكنه ، وأداته هنا الراوي والرواية . وتتوزع مسؤولية الراوي على الراوي ذاته ، وكاتب المقالة ، ومدى وعي القارىء ، أما الرواية فمسؤوليتها المطلقة تقع على عاتقها ، وللقارىء حرية التصديق او التكذيب .
وبأثر رجعي ، وتغذية راجعة أعود إلى أبو عرب ، أنهى ثانويته ، لم تكن لديه أدنى فرصة للذهاب إلى الجامعة ، لا أعرف كيف أنهى ، ولا أين أنهى ، فجأة يحمل الثانوية في مدينة ، والمدن جائعات ، تأكل أبناءها في دورة لا تنتهي ، وتظل جائعات . ولأنه استيقظ ذات صباح فوجد نفسه عاريا ، بلا لحم ، ككل غرباء وفقراء المدن ، فقد التقطه الفكر الماركسي ، ونظريات لينين ، وأدبيات تروتسكي ، واندمج في الحقل الإيديولوجي ، ثم انتقل إلى العمل المسلح ، حدث ذلك من بعيد ، نجا من الموت ، وتخلص من الفكر ، وظل أبو عرب فقيرا ، بدويا ، على هامش المدينة يقيم ويقتات .
في خربوشه الضئيل كان لقاؤنا الأول ، الصدمة الفكرية بادية عليه ، لا شيء عنده ، كوز ماء ، وبساط رث ، وعباءة سوداء ، وفكر جديد . لم تطب له الإقامة فهاجر إلى مكة مجاورا ، سنوات طويلة تبخرت من بين يديه ، ليعود وقد وخطه الشيب ، وانحنى الظهر ، وزادت الهزائم هزيمة . من يومها لم يكلم أبو عرب انسيا ، انكفأ على ذاته ، لعله استغرق أكثر مما يجب في حديث الذات ، وجلد الذات ، في انتظار ما يأتي ولا يأتي .
واليوم ، نادرا ما نلتقي ، فإن حدث ، تلتقي العيون برهة ، ثم تزيغ بعيدا في عالم من النسيان والتوضيب !!! هكذا تقول الرواية ، أو هكذا ألمح الراوي .
هي الثورات أو ما يسمى بالثورات ..تغيّب الشخوص فيها، وتبتلعهم وتلفظهم فتاتا، المنتحرون بالجوع، الساحة الحمراء، الأحساس ابلهزيمة المطلقة والذلّ، من فترة طويلة لم يشهد العرب انتصارا حقيقيا، الهزيمة لها مستويات: شخصية داخلية عميقة وجماهيرية تعبوية، ويبقى التساؤل الى متى؟
من أبدع ما تكتب تحليل الشخصية ….ربما أكثر ما يلفت هو قدرتك على التحليل للنفس ، وتعرية الواقع وعكس صورته المريرة من خلال الشخصيات …أبو عرب …نموذج لكل العرب …على اختلاف هزائمهم ومصيرهم المؤلم …
أتحفنا بالمزيد …سلمت ودام حسك وإبداعك..