أبو عرب .. نموذج بشري / منصور ضيف الله

أبو عرب .. نموذج بشري
بعض النماذج البشرية تبقى في الذاكرة ، متناثرة ولكنها مؤثرة ، تنفلت من أغوار العقل إلى سطحه ، فجة بدائية وصادمة ، لا تخضع لتجميلات الراوي ، أو شطارات الرواية ، صورها متدافعة ، قد تتحور مؤقتا ، لكن أصلها ثابت ، يقوده ويقيده مبدأ اللذة ، وقوة اللون . وحتى نتفادى الألم وما ينجم عنه من صدمات فإن العقل يحاول توضيب ما يستطيعه ، وتهذيب ما يمكنه ، وأداته هنا الراوي والرواية . وتتوزع مسؤولية الراوي على الراوي ذاته ، وكاتب المقالة ، ومدى وعي القارىء ، أما الرواية فمسؤوليتها المطلقة تقع على عاتقها ، وللقارىء حرية التصديق او التكذيب .
وبأثر رجعي ، وتغذية راجعة أعود إلى أبو عرب ، أنهى ثانويته ، لم تكن لديه أدنى فرصة للذهاب إلى الجامعة ، لا أعرف كيف أنهى ، ولا أين أنهى ، فجأة يحمل الثانوية في مدينة ، والمدن جائعات ، تأكل أبناءها في دورة لا تنتهي ، وتظل جائعات . ولأنه استيقظ ذات صباح فوجد نفسه عاريا ، بلا لحم ، ككل غرباء وفقراء المدن ، فقد التقطه الفكر الماركسي ، ونظريات لينين ، وأدبيات تروتسكي ، واندمج في الحقل الإيديولوجي ، ثم انتقل إلى العمل المسلح ، حدث ذلك من بعيد ، نجا من الموت ، وتخلص من الفكر ، وظل أبو عرب فقيرا ، بدويا ، على هامش المدينة يقيم ويقتات .

في خربوشه الضئيل كان لقاؤنا الأول ، الصدمة الفكرية بادية عليه ، لا شيء عنده ، كوز ماء ، وبساط رث ، وعباءة سوداء ، وفكر جديد . لم تطب له الإقامة فهاجر إلى مكة مجاورا ، سنوات طويلة تبخرت من بين يديه ، ليعود وقد وخطه الشيب ، وانحنى الظهر ، وزادت الهزائم هزيمة . من يومها لم يكلم أبو عرب انسيا ، انكفأ على ذاته ، لعله استغرق أكثر مما يجب في حديث الذات ، وجلد الذات ، في انتظار ما يأتي ولا يأتي .

واليوم ، نادرا ما نلتقي ، فإن حدث ، تلتقي العيون برهة ، ثم تزيغ بعيدا في عالم من النسيان والتوضيب !!! هكذا تقول الرواية ، أو هكذا ألمح الراوي .

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. هي الثورات أو ما يسمى بالثورات ..تغيّب الشخوص فيها، وتبتلعهم وتلفظهم فتاتا، المنتحرون بالجوع، الساحة الحمراء، الأحساس ابلهزيمة المطلقة والذلّ، من فترة طويلة لم يشهد العرب انتصارا حقيقيا، الهزيمة لها مستويات: شخصية داخلية عميقة وجماهيرية تعبوية، ويبقى التساؤل الى متى؟

  2. من أبدع ما تكتب تحليل الشخصية ….ربما أكثر ما يلفت هو قدرتك على التحليل للنفس ، وتعرية الواقع وعكس صورته المريرة من خلال الشخصيات …أبو عرب …نموذج لكل العرب …على اختلاف هزائمهم ومصيرهم المؤلم …
    أتحفنا بالمزيد …سلمت ودام حسك وإبداعك..

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى