رواية « أولاد الغيتو » / أيمن يوسف أبولبن

رواية « أولاد الغيتو » … ترنيمات حزينة على إيقاعات صمت الضحايا
أيمن يوسف أبولبن

في رواية «اسمي آدم-أولاد الغيتو» اعتمد الكاتب والأديب اللبناني «الياس خوري» على أسلوب أدبي لافت ومميز ليس كغيره من أدب الروايات الذي اعتدنا عليه، فهو في البداية يدفع بنفسه خارج إطار الرواية أو لنقل إنه يُسقط سياسة «النأي بالنفس» على روايته، لتصبح ملكاً للقارئ وليس للمؤلف، تاركاً القارئ في مواجهة ما يشبه العصف الذهني أو التفكير بصوت عالٍ، بعيداً عن قالب الرواية الكلاسيكية التي تعتمد على شخصيات محددة تعيش في بيئة درامية مشتركة، وتربطهم خطوط درامية متجانسة.
كان مفاجئاً عدم فوز هذه الرواية بجائزة أفضل رواية في مسابقة البوكر العربية 2017. لست ناقداً فنيّاً، ولكني شخصياً أقول إنها تستحق الجائزة، خصوصاً بعد قراءتي لروايات القائمة القصيرة للجائزة العام الماضي.
تبدأ الرواية بإقحام شخصية المؤلف نفسه في الأحداث ومواجهته لآدم الكاتب «المُفترض» للرواية، وتبدأ الحكاية بخلاف بينهما في وجهات النظر، ينتهي بحصول المؤلف «خوري» على مخطوط هذه الرواية وقراره نشرها كما هي بعد انتحار صاحبها الأصلي «آدم» (مجهول الهوية)!
للوهلة الأولى تبدو نصوص الرواية متباعدة، مجموعة من الأفكار والقصص لشخصٍ فاقدٍ للهوية، يتحدث مع نفسه بصوتٍ عال، يجترح الذكريات ويجتر المشاعر السلبية ثم يبحر إلى الماضي السحيق ويستخرج من أعماق الذكريات اوجاعه ومأساته التي يتضح في النهاية انها مأساة شعب بأكمله، بل إنها مأساة الإنسانية جمعاء.
رواية لا تشبه باقي الروايات، ولا هي سيرة شخصية كذلك، بل إنها أقرب ما تكون إلى مُدوّنة لكاتبٍ قرر أن يضع حداً لحياته، ولكنه قبل أن يُقدم على ذلك كان عليه أن يعترف بكل ما كبته أو عجز عن البوح به، وبعد ان أتم اعترافه الأخير، أوصى بحرق كل ما كتب لأنه لا يستحق النشر!
يأخذنا الكاتب في البداية إلى رحلة عبر التاريخ مع حكاية الشاعر «وضّاح اليمن»، الذي يقع في عشق فتاة تدعى «روضة»، ما يلبث أن يصيبها الجذام وتُعزل في وادي المجذومين، وحين يتسلل لذلك الوادي (المعزول جبرياً) لرؤيتها، يتفاجأ بحالها البئيسة مع المرض ولا يستطيع تحمل ذلك المنظر، فيتجاهل معاناتها ونداءاتها ويتركها ويرحل بعيداً، لتحلّ عليه لعنتها فتصيبه «لوثة الجنون» ويتيه في الأرض ولكنه يؤلّف فيها أجمل الأشعار وينشد في حبها أجمل القصائد، فيذيع صيته، وتدخل «روضة» التاريخ من أوسع ابوابه.
ثم يقوده القدر لعشق زوجة الخليفة «الوليد بن عبد الملك» التي تُخفيه في جناح قصرها داخل صندوق، وحين يشي به أحد الحراس، يقرر الخليفة دفن الصندوق بما فيه للقضاء على الفتنة دون أن يكشف ما في داخل الصندوق، فإن كانت الوشاية صحيحة مات العاشق وان كَذُبت لن يضر دفن صندوق!
وهنا يسقط الكاتب مأساة رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» على قصة وضاح اليمن، ويطرح السؤال الذي ما زال يحيّرنا إلى اليوم: (لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟!) لماذا تعمّد وضاح اليمن السكوت وإخفاء وجوده في الصندوق، وقَبِلَ أن يكون شهيد العشق داخل ما أصبح يعرف بـ (صندوق الحب) ؟! هل هو إخلاصه لزوجة الوليد أم تكفيراً عن مغادرته روضة وهي تحتضر، أم استسلاماً للموت الذي لا مفر منه!
تبدو هذه القصة معزولة ظاهرياً عن الرواية الأساسية عن أهل الغيتو، سكان مدينة اللد الفلسطينية، الذين حبسهم جيش الاحتلال داخل الأسلاك الشائكة في مدينتهم المدمرة ثم أجبرهم على تنظيف المدينة من الجثث، وتفريغ البيوت من أثاثها ومقتنياتها، وحصد محاصيل مزارعهم لصالح خزينة دولة الاحتلال، وخلال تلك المحنة اضطروا للمحافظة على حيواتهم وتدبير أمور معيشتهم في ظل عزلة تامة عن العالم الخارجي.
ولكن المتمعن في الصورة، يرى أن أهل اللد (مثلهم مثل من عايش مأساة فلسطين عامة) كانوا يُساقون إلى الموت وهم يعلمون ذلك جيداً، ولكنهم فقدوا الأمل وانعدمت البدائل وتبخّرت فرص الحياة أمامهم، فاختاروا الرحيل بهدوء وصمت عميقين، إنه إيقاع صمت الضحايا!
والذين عاشوا منهم، عاشوا عبيداً للذاكرة، حيث كان عليهم أن يتأقلموا مع العيش داخل ذاكرتهم، التي أصبحت بديلاً عن الواقع، محاولين التمسك بآخر خيط يربطهم بالوطن، وعبير ذكرياتهم، فأصبحوا في النهاية محبوسين داخل ذلك الصندوق، صندوق الخوف أو صندوق الذاكرة، داخل ذلك الغيتو، أو حتى داخل خزّان الماء في رواية غسان كنفاني، سمّه ما شئت!
«أنا ككل الفلسطينيين الذين فقدوا كل شيء حين فقدوا وطنهم، لا أرمي أي شيء له علاقة بالذاكرة الهاربة، فنحن عبيد ذاكرتنا. الذاكرة جرحٌ في الروح لا يندمل، عليك التأقلم مع صديده الذي ينزّ من شقوقه المفتوحة».
الأقسى من الموت أن تعيش الغربة داخل الوطن، فمن نجا من مذبحة اللد، تم تجريده من كل حقوق المواطنة، مع الاستمرار في العيش داخل الأسلاك الشائكة، داخل قفص الغيتو، وكان على هؤلاء الناجين التعايش مع حقيقة أنهم وجميع ما يملكون قد أصبحوا جزءا من دولة الاحتلال.
«حاولت أن أشرح له وأنا أتأتئ من الرهبة أن هذه الطاولة صنعها أبي بيديه ووضعناها في غرفة الطعام وهي مصنوعة من خشب زيتونةٍ مُعمّرة يَبِست في حَقْلنا، وأبي أراد لهذه الزيتونة أن ترافقنا طوال العمر لأن رائحة خشب الزيتون تفحّ منها….الرائحة يا سيدي، هذه رائحتنا وأنتم سرقتم رائحة أبي!»
يأتي الكاتب في الرواية على «مسيرة الموت» في اليوم الأخير من مذبحة صبرا وشاتيلا، ويقول على لسان أحد الناجين منها: (كانت مسيرة تصفيق وهتاف وقتل.. أجبرونا على التوقف وسمعنا مُكبّر الصوت يأمرنا بالرقص «ارقصوا يا أولاد الش***» لم يتحرك أحد أو يصدر صوت…
… وجدت نفسي أرقص، لا تسألني كم من الوقت رقصنا لأنني لا أعرف، فالوقت لا يختفي الا في لحظتين، الرقص والموت، فكيف إذا اجتمعتا !!
… هنا مات كل الناس، كل البشرية ماتت في لحظة الرقص تلك!)
الموت في هذه الرواية ليس كباقي الموت الذي نعرفه، إنه موت يمتزج بساديّة القاتل، ورفض القتيل أن يُقتل، بل يقرّر أن يموت هو!
«ربما كانت بلاغة الموت الكبرى أن أبطاله لا يستطيعون روايته»
«فيك تتخيل: منعونا نبكي! هل سمعت بجيش احتلال يمنع ضحاياه من البكاء؟
نحن مُنعنا من البكاء، وحين لا يعود باستطاعتك أن تبكي، خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى!»
لعل هاتين العبارتين تُلخّصان ما أراد الكاتب أن يقوله في الرواية، لقد حاول أن يستنطق الموت ويجعله يروي حكاية ضحاياه، كي يحرّرهم ويستطيعوا بعدها أن يبكوا بحرية أن يتحدثوا دون خوف من أن يموتوا ثانية، أن يدقّوا جدران الخزان، ويكسروا صندوق الخوف!

كاتب ومُدوّن من الأردن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى