ستون حولا / د . بسام ابوخضير

ستون حولا
هذا هو العمر المسمى ستون حولا ،أخذ بيدي طفلا حافي القدمين ممزق الهدوم ، وراح يمرغ وجهي بتراب البيادر والحواكير ، ويدمي قدماي بحجارة الملاعب وشوك الحقول ، ويكحل عينيا بغبار الارض والساحات ، ويحني يديا بطينها آلاف المرات .
هذا هو العمر المسمى ستون حولا ، قادني الى مدرستي صاغرا ، وأجلسني على راحلة الدرس ، يعذبني بدروس اثقلتني هما وحرجا ، وحصص تتمطى بصلبها وئيدة ، ترعبني فيها مناظر المعلمين في استعراضاتهم اليومية وهم يروحون ويجئون ، يبطئون ويسرعون ، ويصرخون منذرين ومبشرين، وقاماتهم تملء المكان خوفا وطمعا ، لا تثنيهم غفلة الطالب او ضجره ، يبنون ويصرون على البناء ، رغم انوفنا ، بالعصا تارة وبالكلمة تارة اخرى ، ونحن لا يستقيم لنا ميل او رغبة ، نغافلهم لنهدم ما نهدم ، فيعاودوا الكرة مرات ومرات حتى علا العمران ، وادركنا بعدها ما لهم من فضل عظيم في اعناقنا لا يطاوله شكر أو جزاء .
نعم ..في ذاكرتي من ذاك الزمان ، رفاق عن يميني و عن شمالي طالما أقحموني وطالما أقحمتهم بمزاح أشعل لي دمي وغناء بج اوداجي ، وفوضى ضاق بها الزمان والمكان ،وما هي إلا برهة حتى خمدت الاصوات ،وغادر الفرح قلوبنا وتطايرت البسمات عن وجوهنا وادلهمت قسماتنا ، فصار الفرح حزنا والضحك بكاء ،فقد ضبطنا الاستاد متلبسين بالمرح والفرح فكانت العاقبة للجميع .
هذا هو العمر المسمى ستون حولا ،جاب بي السهول والحقول ، عرضا وطولا ، يعمونها وحاطمها ، ونحن نلحق خلف عصفور نطارده بالحيلة والمصيدة لنجعل من اسره وألمه مراسم فرح وسعادة ننعم بها دونما ان ندرك هول فعلتنا عندما كنا نطبق بايدينا على جناحيه منتزعينه من سربه وجماعته ومعكرين صفوه وقاطعين عليه رقصه وغنائه .
في ذاكرتي من تلكم الايام ، ملاعب الصبا التي كانت تضج مرحا ولهوا ، عندما كان المنادي ينادي ، هلموا ياصحب الى اللعب ،فيجتمع الرفاق طائعين فرحين ، لا تثنيهم مهمة او التزام ولا يمنعهم تكليف ،هذا يلوح بيديه وذاك يصيح باعلى صوته وجميعهم يركضون جيئة وذهابا حتى تكل ارجلهم وتتعب ايديهم او تغشاهم الظلمة ،فيعودوا الى بيوتهم بعد ان نفضوا الغبار عن رؤوسهم وملابسهم وكانهم كانوا يراجعون دروسهم .
هذا هو الزمن المسمى ستون حولا ، ناولني بيدي الغضة منجلا ووقف بي على رأس حقل ترامى من امامي وعن يميني وشمالي وقال لي اجمع خبزك من هذه السنابل المطأطأة الرؤوس، وهيهات ..هيهات ..فإن الطريق بين السنبلة والرغيف طويل طويل ،فيه حصيد ورجيد ودرس وغربلة ، وعرق وشمس تموزية تلفح الوجوه ، وبرغش يهاجم السمع وغبار يملء البصر ،وليل مقطع الاوصال أكل عمل النهار من اوله وقضم من اخره .
في ذاكرتي من ذاك الزمان حصان اعياه الدوران على قرص القش ،فعصف به التعب غضبا وضجر ،فرماني برفصة على يساري مسحت عليها بيميني وتابعت بجد وسلام وأمان
هذا هو الزمن المسمى ستون حولا ،آباء وامهات لا يهجعون من الليل إلا قليلا ، يصلون الليل بالنهار ليضعوا في بطوننا لقمة صائغة حلالا طيبا طاهرا ، فهذه امي يبدأ يومها قبل الفجر ويمتد الى ما بعد غياب الشمس،مرورا بخبز الحصادين وحلب الاغنام والخض والطهي والغسيل والتنظيف وتربية الابناء ،وابي الذي غرس يديه في كل شبر من الارض ، يزرع الحبوب والاشجار ويجني الغلال والثمار لنأكل منها ما نأكل وندخر ما ندخر ليوم لا ثمار ولا غلال فيه .
في ذاكرتي من ذاك الزمان وصية ابي حين قال إياك..إياك الشرك بالله وإيذاء الناس .
هذا هو العمرالمسمى ستون حولا ، يوما او بعض يوم ،فلا تغفل عن حسن الاعداد فيه ليوم اخر .يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون…..

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى