ذكريات من بيت الأحياء / يوسف غيشان

ذكريات من بيت الأحياء
يقال أن لكل قاعدة استثناء ، وكنت أنا استثناء لتلك القاعدة التي تقول بأن الطفل الذي يأتي ، إلى هذه الفانية يأتي و رزقه ( معاه ) ، فقد جئت من صُلب رجل كهل وأم تحلب الصخر من أجل تدبير لقمة استمرار الحياة . وكان خروجي المظفر تأريخاً للانهيار في أوضاع أسرتنا المالية ، وكانت ( نصيّة ) الحلاوة التي تم توزيعها بكرم مفتعل يوم ولادتي ، هي آخر حلويات حقيقية تدخل لبيتنا لربع قرن تلا ، لكنهم وقبل انتهاء النصية اختلفوا على تسميتي فهناك من سماني (جريس ) وهناك من سماني ( يوسف ) ، وها أنا أحمل الاسمين حتى الآن ، وكان هذا أول فصام نفسي تعرض له الطفل .
الجرعة الثانية من الفصام تلقاها الطفل ، حينما أدرك ان الوضع الطبيعي للأتراب أن يحظى الولد بأم واحدة فقط لاغبر ، بينما كان يتوزع هو بين أُمين ( أم بيولوجية ، وزوجة أب ) .
الجرعة الثالثة اكتشفها الطفل ، متأخراً حينما أدرك أنه وخلافاً للمقولات السائدة وللقصص المحكية حول جور وظلم زوجة الأب ، فان زوجة أبيه الأولى تبنته منذ الولادة ، وكانت تحميه من هجمات الأم الانفعالية ، الغيورة ، أحيانا .
وقصة زوجة الأب هذه ( أمي مرثا ، كما اسميها ) ورغم ما فيها من عادية ، إلا أنني أرى فيها ملحمة لانتصار الحياة ضد الموت والعقم والجمود / تزوجها والدي عام ( 1922 ) وكان عمره ( 22) عاماً ، وهي من عشيرة المدانات الكركية ، ومنها اكتسبت وأخوتي لهجتنا الكركية التي ما تزال نتحدث ونفكر ونحلم بواسطتها حتى الآن . كما علمت ـ فقد أصيبت زوجة أبي ( أُمي مرثا ) بمرض في ذات عام زواجها وتم استئصال الرحم ، وظلت تعيش مع والدي بلا أمل في الإنجاب حتى عام ( 1954) ، إذ وبعد ( مداقرات ) عديدة مع بعض القريبات المادبيات اللواتي كن ينتصرن عليها بالقاضية حين يعيرنها بالعقم ، وبأنهن سيرثن الدار والأرض المفتلح بعد وفاتها هي وبعلها شيوخاً بلا والي ولا وريث .
من رحم ” المداقرة ” جئت أنا ، إذ انتصرت زوجة أبي على كوكبه النسوة والقريبات بالقاضية الفنية أيضا ، حينما قامت بتزويج والدي ، وكنت أنا الحصيلة لهذه التراجيوكوميديا ، حيث ملأ زعيقي سماء الحارة فجر أربعاء أحمق، من أب كهل ثقيل السمع والمشي ، يجلس في دكان حبلى بالمطربانات الفارغة ، سوى من ملبس الحثان ، ونصية حلاوة للبيع بالوقية ، وبرميل كاز للبيع باللتر، ولـ ( نقع ) ساعة الوالد يومياً ، وهذا ما حافظ عليها منذ سقطت من يد أحد جنود نابليون بونابرت خلال حصار عكا .
كانت أول ( لهاية ) أحصل عليها مكونة من ( شريطة ) مربوطة حول حبة حلقوم ، وكان الذباب يلاحقني باستمرار وأنا أزحف في ارض الحوش الطينية المكتظة بالصراصير التي كان تعذيبها تسليتي الشرعية غير الوحيدة . وقد أدمنت من عامي الثالث على جمع أحجار الفسيفساء التي تزخر بها حارتنا، ثم توضيبها ودفنها لتصير آثاراً في المستقبل ، وهذا ما يشي بنضوج سياحي مبكر ( يا ذكرا لله ) .
كانت أول جرعة بون بون ( حلويات ) أتعاطاها حين تعرضت لمرض الحصبة الألمانية ، حيث أنعم علي الوالد بورقة دفتر مليانة بالملبس الحثان المكسر من قاع مطربانه العتيد ، وما زلت ارتعش فرحاً حتى الآن عند ذكر الحصبة الألمانية التي كانت رعشات ” حمّاها ” مثل السيمفونية الرائعة لما حصلت عليه من تدليل ولأنها أوقفت الضرب ( التدليك ) ولو إلى حين .
فصام آخر تعرضت له في ما يسمى بالطفولة ، حيث كان الأولاد يتحدثون حول أكل أفخاذ الدجاج ، وكنت أشاركهم الحديث وازاود عليهم في عدد الأفخاذ التي التهمتها . ثم اكتشفت ان ” أفخاذي ” غير أفخاذهم ، وأنها مجرد أرجل الدجاج التي ترمى بعد ذبح الدجاجة أو ببيعها قتلة الدجاج بالطن .
المرض الذي كان يصيب الأم أو الأب كان مصدر سعادة وفرحة للجميع ، حيث يجيء الزوار أو كراتين البيض ، فأنعم بها هنيئاً مريئاً .
طفل سارح في البرية يملك معدة تجرش كل شيء … هكذا كنت … انتصاراً للحياة على الموت ، انتصاراً للإنسان على غول الفقر والجوع والانحراف .
أيتها الحياة ، كم أنت قاسية … وكم نحبك … !!.
من كتابي(برج التيس)الصادر عام1999

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى