أبريلْ يا أقسى الشُهور

أبريلْ يا أقسى الشُهور
د. جودت سرسك

تي إسْ إليوت وهو يتحدّثُ في رائعته الأدبية (أرض اليباب) والتي اجتاحت شهرتُها بطونَ المؤلفات وأذهان العامة والخاصة يُطلِقُ زفراتِه وينفث أحقادَه الشفيفة بلُغةٍ تُراوِح بين القداسة والترميز ويصرخ في وجه زهوراللوز والليلك في أبريل ويلومها على تفتّحها وسط ِأشلاء الجثث وروائح الدم عقب الحرب العالمية الأولى. ما أقساك يا أبريل حيث جعلتَنا أصناماً بلا قدسية يأكلها الجوعى عند أول قرقعةٍ في بطنه أو بطن عياله , ما أقساك يا أبريل حيث أطفأت فينا جذوة الربيع وتفتحتْ أزهارُ لوزِك حين لا نقوى على قطافها ولا تسلّقِ أشجارِها لنختلسَ ما نضج من ثمارها .كيف لك أنْ تشرقَ وأطفال الحيِّ أقعدهم الخوف ووسواس الفيروسات التي فاحت رائحة خُبثها وجبروتها,جعلتَ الفقير والغنيّ على حدٍّ سواء يصطفون طلباً لعلبةِ أملْ, والعسكريُّ يرقب مَنْ خرَق النظام منهم, ساويتَ بين فتاةِ التاتو والبوتوكس ونيرة الوجه وبين فتاة الفول والحمّص وكلَفِ المُحيّا وهاويات الغسيل فوق أسطح الحارات .كيف لزهورك أن تتمادى طولاً وعرضاً وشيوخُ الحيِّ عَجْزى عن صلةِ أرحامهم وبثِّ النحنحاتِ كزقزقات العصافير على إيقاع شروق الشمس. تشرق شمس نيسانَ وأفواه الرجال والنسوة مكمّمةٌ عن النكات والأكاذيب وتعلو ما بقيَ من وجوههم صُفرةٌ سبّبتها خانقةُ وعاصفةٌ لا هوادة في سمومها.حين تغيب ملامح الشقاوة من جنبات مدارس الأطفال ومعاكسات المراهقين عبر تسريحات الشعرِ الموشّح بالجِلّ والبناطيل المخّصرة ومراييل الفتيات الخُضر,وأصوات بائعي الكعك والبَيض والتُرمسِ والبليلا والفول ذي الحبة الكبيرة وحلاوة السميدة من أمام حديقة المرور العامة التي يلتجيء إليها ضعاف الدخل ومقطوعوا العلاوات.كنت يا أبريل المحتال والمحتلُّ فيما سبقَ تعيّرنا بكثرة مخالفات المرور عند اقتراب موعد تجديد ترخيص السيّارات وتعيّرنا بقرب موعد دفع قسط المدارس قبل دنوّ مواعيد الامتحانات وازدحام شارع الاستقلال ودوار الداخلية واكتظاظ شارع السلط قرب مطعم هاشم ساعة الغروب وليتها تعودْ .
فُزِّعتْ أحلامُنا لحظة الربيع وتفرُّعِ سيارات الفلاحين على طرقات إربد وجرشَ وبيرين وخط الجنوب التي كساها زهرُ الحاملة أو نبات الحمّص النيّيء وخوارزمية الفراولة وحَبّ الرمّان على مدّ البصر,أبكيتَ زهرةَ المدائن وزينتَها ورسمتَ ملامحها من ترابٍ وأغبرةٍ وكانت كلّما تضيق بنا المدنُ نلهج بقلبٍ حالم بعبارة :شمّلت .لا أوحشَ الله منكِ يا أربد يا موناليزا الزمان المحاصرة ,قتلوك لحظة عرسكِ ولوّثوا طرحَتكِ التي سدّت وجهَ الشمس.
ما أقساك يا أبريل حين تُزهرُ وقد حُرِمنا طعمَ الجبن الأبيض ولذيذ نكهة العشبِ فيه, تصنعه يدُ أمّ إبراهيم البدوية والفلاحة والقرويّة وابنة المهاجرين.
كيف لعصافيرك أن تتغنّى وقد فرّق الحُزن والخوفُ ابنَ المخيّمِ عن أمِّه التي تسكن في أعلى الدرج وتحت مزاريب الشتاء ورطوبة المكان وحُرِمَ نكهة المقلوبة المكلّلة بالزهرة والباذنجان وشرائح البندورة في قعر الطنجرة.أيا أبريل القاسي أقول وقد ناحت بقُربي حمامةٌ جاعت وهجرها غصنُها وجفّ الحبّ من منازل صحبها بعمّان وجبالها والزرقاء والخضراء والصفراء شمالا وجنوباً وما زلتَ تُزهر.
يا نيسان القاسي لا كذبَ بعد اليوم ,فقد كذبتَ علينا كفيض البحار وكشفْنا زيفَك ولا شيءَ يهمّنا إنْ اجتاحتك فيروسات وعذاباتٌ جديدة وبقيتَ تُزهرُ سوى أن نستعدّ لجمع أكوام الخبز وتوديع أحبابنا وتدبّر بعض الدنانير.ماأثقل دمك وأشدّ ضراوتك فقد غابتْ طلقات مدافعِ رمضان وابتهالاته عن قلوبنا وآذاننا وتكدّرتْ رائحة طعامه بين جنبات الزقاق ,ما أقساك وأصلفَ نواياك فقد بكتْ عمّان وبغدادُ واليمن والشام وأُتبِعتْ غزّةُ بجراثيمك التي نُشِرتْ وما زلتَ تورقْ .
فمنْ يعّدُكَ بعد اليوم على روزنامةِ عُمرِه وقد باعدتْ الحربُ وصفّاراتُ الإنذار بين يديّ شابٍّ وكهلٍ لحظة دعاءٍ لله خشيةَ الّا تنقل إحداهما العدوى للأخرى لحظة غروبٍ وجفاف حلقٍ بانتظار أنْ يرويَها كوب تمرٍ هندي أو رشفةُ خرّوب .
يداكَ مغروستانِ بالزنابق وخصالُ شعرِكَ مُبتلّةٌ ونحن مَنْ سَقيْنا غِراسَك مبلّلون بالعرَقِ والحُمّى ,عندليبُك يزقزقُ صارخا في حينِ تعلونا صافراتُ الانذارِ ولوّاحاتُ الحروبِ والقحّةُ البغيضة تملأ الأفق.
ما أقساك حين تفتح ذراعيك للفضاء وتغلق دكاكين الخبز ومحلّات الزهور والقهوةِ السمراء ودكاكين الحلاقة وتغلق كلّ ارزاقهم ولا تقوى على إطعامهم ولوزك يفيض دون قطاف.
يختتمُ إيلوت فزّاعتَه الشعرية وسط ركام القتلِ والجثثِ وأكوامِ الأحزان بعبارةٍ سنسكريتية : شانته شانته شانته وينهي أبريل تغريداتِ بلابله بأصواتِ ال: ويوْ ويوْ ويوْ .ما أقساك يا أبريل وأعذبَ زهرَك لوْ فاحَ عبيرُها في زمنٍ بعيدٍ عن الكورونا .
J_sh_s@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى