خيانة الموتى / خيري منصور

خيانة الموتى

أمر يتجاوز المصادفة أن يعني اسم المفعول في لغتنا العربية أحيانا الشيء ونقيضه، فالمُحتل هو الذي يمارس الاحتلال وهو ضحيته أيضا، ما دامت هذه المفردة تعبر عن الموقفين المتعارضين، وقد استخدم شاعر عربي اسم المفعول على نحو معكوس حين قال في هجاء رجل بخيل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
والمقصود هو من يطعمه الآخرون ويكسونه، وقد تبدو هذه المقدمة تمهيدا لفصل في فقه النحو، لكن الأمر ليس كذلك، لأن ما أعنيه بخيانة الموتى يتضمن الالتباس ذاته، فهل هي خيانتنا نحن الأحياء لهم؟ أم خيانتهم لنا؟ وهل من نفقده يخوننا من خلال غياب مطلق؟ أم نحن الذين نتخلى عنه ونخذله عندما ننفض الغبار عن ثيابنا بعد دفنه؟
هذه الأسئلة وغيرها أيضا تراودني كلما ودّعنا صديقا، وما أكثر الذين أصبحنا نودعهم بعد أن تقدم بنا العمر، فمن يسهرون هناك في مكان ما وينادمون الجذور ولا يصغون إلا لحفيف الأشجار، أكثر عددا ممن نقتسم معهم أعباء الإقامة في هذا الكوكب، الذي أوشك أن يصاب بالدوار من فرط الدوران.
أشعر أحيانا بعد وداع صديق أصبح بلا عنوان وتوقف هاتفه عن الرنين إلى الأبد بأنني خنته لأنني بقيت على قيد الحياة، وقد امتنع عن الطعام والشراب لبعض الوقت، لكن سرعان ما تسطو الغرائز البدائية وما يسمى الخلايا الزواحفية في الدماغ على القلب، ومن سموا النسيان نعمة حاولوا تبرير الخيانة القسرية لموتاهم، لأن هناك من الموتى الذين فاضوا عن مساحات قبورهم من يقاسموننا فنجان القهوة ولا نجد عوضا عنهم في الأحياء. كلاهما إذن خيانة البقاء على قيد الحياة لمن فقدوا أعزاءهم، والرحيل بالنسبة لمن توقفت قلوبهم وأغمضوا شفاههم وآذانهم أيضا وليس عيونهم فقط.
صديقان على الأقل يقاسمانني فنجان قهوتي الذي برد بانتظارهما، غالب هلسا ومحمود درويش، إنهما الصديقان اللذان لم يغب هاجس الموت عنهما، وكان ثالثنا عندما نكون اثنين، كان غالب يقول مداعبا ودامعا كيف سأقضي أيامي في تلك العزلة بلا تدخين ثم يضيف: زرني دائما وضع تحت الشاهدة علب سجائر. أما محمود درويش فقد كان يكرر عبارة مشحونة بالشجن، هي أيّنا سيكون الأبلغ في الكتابة عن صاحبه بعد الوداع!
وذات مساء خريفي موحش فاجأني بما كتب عني وهو بمثابة تقديم لمجموعتي الشعرية الكاملة، واستخدم عبارة فلان هبة الطبيعة، فأردت أن أردّ له التحية بأحسن منها، وكتبت له أنت هبة التاريخ، وكعادته عندما يبتسم وتومض عيناه قال أنا أكرم منك، لأن الطبيعة أبقى من التاريخ، وحين قررت الاعتذار كان الأوان قد فات، وكتبت له ما قرأه الآخرون ولم يقرأه، لأن المرسل إليه أصبح في مكان يتعذر الوصول إليه.
كان غالب الذي كنت أداعبه بعبارة لا غالب إلا الله، قد انجب ذاته من صلبه ولم يشأ أن يكون كما قال سببا في موت ذرية تبدأ منه ولا تنتهي حتى القيامة. ومحمود درويش كان يردد أنا لم أتقن مهنة الابن فكيف اتقن مهنة الأب، ويعترف بأنه ورث عن أبيه خجلا من طراز غريب بحيث يبدو سريع الانفعال وذلك ليحجب خجله الموروث.
محمود الأب لا أعرفه ولا يعرفه هو أيضا، لأنه كان يقول بأن هناك تجارب لا تدرك بالتجريد وقد لا ينفع معها التقمّص أيضا، وحين وُلِدت أول حفيدة لي وأخبرته ضحك كثيرا وقال: كيف لمن لا يتقن مهنة الاب ان يتقن مهنة الجد؟ وأضاف إبحث عن كلمة أخرى من أي لغة غير العربية لتصف ما انتهيت إليه.
ولا أدري لماذا يباغتني إحساس بما يشبه الإثم إزاء هذين الصديقين وأشعر بأنني خنتهما معا، وسطوت بلا فروسية على حصة كل منهما من الهواء واللون الأخضر وضجيج المقهى، ومشهد الكتب المتراكمة على مائدة الطعام وابتسامات النساء الغامضة.
غالب الذي لم يتزوج ولم يَبنِ بيتا كان يقول إن الأعزب له كل النساء ومستأجر البيت له كل البيوت فالامتلاك قيد، وكم شعرت بخيانة صديقي عندما قرأت وحدي كتاب أريك فروم «الملكية أم الكينونة؟» الذي كان تحويرا لمقولة شكسبيرية خالدة: أن تكون أو لا تكون، فقد جعلها فروم «أن تملك أو أن تكون»، واحيانا تتجسد الخيانة في أشياء صغرى وتفاصيل لا تخطر ببال من يتعاملون مع الحياة بالجملة، منها مثلا الملابس والأدوات والأشياء الحميمة الممهورة بالذكريات التي يرثها الأحياء الموتى عن الموتى الأحياء.
إن خيانة الموتى تتجلى في استثمار غيابهم والسّطو على ما كانوا يقولون دون أن تنسب الأقوال إليهم، وقد يكون أسوأ مثل أفرزته ثقافة الانحطاط ورواسب الوثنية في تاريخنا هو كلب حي خير من أسد ميت، لأنه ما من كلب زأر على قبر أسد، وما من أسد نبح حتى بحّ صوته كي يبقى حيا.
إنها لحظة تنوب فيها القشعريرة عن القصيدة، ويعوي فيها الجسد كذئب جريح كلما تذكر مقولة البير كامو القاصمة لكل الظهور وهي، أن من سيموتون هم الذين لم يموتوا بعد، وأن الموتى وحدهم نجوا من هذا المصير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى