إستراتيجية الإنسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط و أثرها على القضية الفلسطينية

إستراتيجية الإنسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط و أثرها على القضية الفلسطينية
محمود الشيوخ

لم تعد معالم الإستراتيجية الأمريكية الإنكماشية الجديدة ، و خصوصاً في الشرق الأوسط ، خافية على أحد . و هي تستند بذلك إلى حقائق علمية و موضوعية و تاريخية توضح لها بأنه لم يعد بإمكانها أن تبقى على الحال الإمبريالي العالمي ذاته ، و أن تكون شرطي العالم على حد وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب .
مؤشرات الإستراتيجية الجديدة هذه كثيرة ، بدءاً بالإنسحاب الخاسر من العراق ، و الذي كانت نتائجه أن خسرت الولايات المتحدة جُل نفوذها التاريخي في تلك الأراضي لصالح عدوها اللدود ( إيران ) . مروراً بقرار الرئيس الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من سوريا ، و الذي عُد نتيجة طبيعية لتدخل أمريكي هزيل في مواجهة السيطرة الروسية و الإيرانية على ” سوريا ما بعد الثورة ” ، و قد اتضح في نهاية الأمر أن جميع اللاعبين في الملف السوري قد ربحوا سوى الولايات المتحدة . و قد تزامن هذا القرار مع قرار سحب نصف القوات الأمريكية من أفغانستان ، تلك البقعة الملتهبة التي لطالما شكلت عقدة تهديد إستراتيجي للولايات المتحدة .
و يبدو جلياً ، مُذ تمخض الإحتقان العربي التاريخي عن ثورات عربية ، أعقبتها موجة هادرة من الثورات المضادة بقيادة كواليسية أمريكية عبر حفنة من أبرز لاعبيها في الشرق الأوسط ، كالسعودية و الإمارات على سبيل المثال لا الحصر ، أن الولايات المتحدة باتت تباشر المرحلة الأخيرة من ذلك الإنسحاب بمحاولة شمولية لتسوية غالبية ملفات الشرق الأوسط بما يبقي على جُل مصالحها القومية ، في هذا العمق الذي لا يمكن الإستغناء عنه بسهولة ، في ظل تنافس ملحمي مع الصين . و قد نجحت – كما يبدو – في إغلاق الملفات في مصر و تونس ، و تكاد تفعل ذلك في ليبيا ، مع حلفائها ، برغم ضخامة الصراع الدائر هناك .
و لكنها لم تنجح حتى الآن في تسوية الصراع الشرق أوسطي – الإيراني ، و لا يبدو أنها تحاول اختتام إنسحابها بمحاولة جادة لحسم تلك القضية ، فهي تدرك جيداً بأن التعامل مع العدو الإيراني الداهية يستلزم التخطيط من واشنطن و من ثم التنفيذ عبر الوسائل الممكنة ( الإقتصادية من جانب ، و العسكرية عبر تحالف أو عبر وكلاء من جانب آخر ) ، لا أن يكون التخطيط و التنفيذ هما عملية واحدة مختلطة المعالم تجري في ظروف تواجد مؤقت على الأراضي الشرق أوسطية .
و لكن الأمر الذي تتولاه وتتبناه ، كمرحلة ختامية للإنسحاب ، هو تسوية شاملة أمريكية إسرائيلية البصمات للصراع العربي – الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين بشكل كامل ، مستغلة بذلك التهديد الإيراني لجلب المزيد من الداعمين العرب لهذه التسوية . و تنبع هذه التسوية من إدراك الولايات المتحدة بأن ما من الإنسحاب الإستراتيجي الأمريكي مفر ، و بأن إسرائيل باتت أقوى من أي وقت مضى مقارنة بمحيطها العربي ، و بأنه بات لزاماً عليها أن تأخذ زمام الإدارة الإقليمية لقضاياها .
و يمكننا أن نتلمس عدة مؤشرات لهذا الإتجاه ، منها :
– تضاعفت المساعدات الأمريكية لإسرائيل بين نهايات العقد السابع و حتى نهايات العقد التاسع ٤٠ مرة . بينما انخفضت في العقد الأخير بالمقارنة مع عقد نهاية الثمانينيات و بداية التسعينيات بنسبة ٨٪ . و اقتصرت المساعدات على المساعدات العسكرية بنسبة ٩٩.٢٪ ؛ باختفاء بنود المساعدات الإقتصادية من موازنة الدعم الأمريكي لإسرائيل .
– إيقاف الولايات المتحدة تمويل وكالة غوث و تشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أونروا ) .

بناء على ما سبق ، يبدو أن الترويج الأمريكي المستميت لصفقة القرن ، و محاولات فرضها على الطرف العربي بجميع ساكنيه ( المتواطئين منهم و الرافضين ) هوالمرحلة الأخيرة لإنسحابها ، و التي يبدو أن أبرز نتائجها هو تحمل الإنسان الفلسطيني لهذه الفاتورة بالكامل .
فهل ستستطيع الولايات المتحدة حسم الصراع العربي – الإسرائيلي الذي إستمر لأكثر من سبعين عاماً في عجالتها هذه؟ و هل يمكنها عبر خطتها ، غير الواضحة ، أن تتجاوز الحقائق التاريخية و الإنسانية و العقدية و الأنثروبولوجية و الإجتماعية للصراع في إطار استراتيجية العودة إلى الداخل ، و هي التي لم تتمكن من تجاوز كل ذلك خلال تواجدها السبعيني على هذه الأرض؟

هذا ما سنرى إجاباته في السنوات القليلة القادمة ؛ فنحنُ نسأل و التاريخ يجيب .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى