وادي الحدادة …

وادي الحدادة …

محمد #طمليه
تذكرت فجأة ان لي بيتا في ” #وادي #الحدادة ” , وان لي اما واشقاء , وان لي مكتبة , وجوارب نظيفة تحفظها امي تحت ” فرشة السرير ” , وصورا لفتيات عابرات اخفيتها في مكان يصعب الاهتداء اليه , وملاحظات مقتضبة على حائط الغرفة / غرفتي التي استولى عليها شقيقي الذي يليني مباشرة , و” فرشاة اسنان ” وضعتها آخر مرة في ” جرار الطاولة ” ..
تذكرت فجأة انني خرجت قبل سنوات لشراء السجائر على الاغلب ولكني نسيت ان ارجع , اخذتني #الصحافة , والنهم الشديد للتورط في الحماقات العارضة , والتوق للتنصل من اي ارتباط , والقناعة بأن الاسرة قيد , وقيلولة الظهيرة قيد : ان خير وسيلة للعيش هي المسير بهمة ونشاط وصولا الى … لا شيء.
وها انذا اقولها صراحة : سوف لا يعرف المرء معنى الحياة الا اذا واظب على التردي , وحرص على البقاء في اماكن تجعل دق عنقه امرا ممكنا ..
انا اؤمن بذلك , ولكني شعرت فجأة انني بحاجة للقليل من الخنوع , فقررت ان ارجع , مع ما يرافق ذلك من خزي وعار , الى بيت امي .
وجدت الباب الخارجي موصدا . اين ذهبوا ؟ فاتني ان اشير الى ان للانحراف طابعا وراثيا اي ان اشقائي اوغاد ايضا , قرعت الباب مرة اخرى على امل ان يستجيب ” الابن المناوب ” , ولكن عبثا , هممت بالرجوع , الا ان جارتنا نادتني من الخلف وقالت انهم تركوا المفتاح معها .
البيت رطب وغير مرتب : لو كان معي ضيف لاعتقد في ضوء الفوضى ان البيت شهد قبل لحظات من وصولي نزاعا اسريا ضروسا اسفر من المؤكد عن جرحى وشهداء .
ثم ها انذا في غرفتي : استلقيت على السرير الذي افنيت فيه ايام الدراسة الجامعية ردحا من القلق . غفوت . حلمت , على ما اذكر بأبي الذي مات في ” بغداد ” , وبقرى الجنوب التي تنقلنا فيها : كنت صغيرا وجائعا باستمرار . كان ابي معلما وواعظ مسجد وربما تاجرا وسائقا ايضا . وحلمت , على ما اذكر انني ابحث عن ابي في مقبرة يرقد فيها اكثر من 500 شخص , الا انني وجدته في النهاية . لقد اسعدني واشعرني بزهو ان لابي قبرا حقيقيا .
حلمت على ما اذكر ب ” كرة الجوارب ” , وبقلم الرصاص المفطوع على الدوام , وبابنة الجيران التي كانت تصعد الى السطوح بحجة نشر الغسيل , وبالعروس التي جيء بها , ولا ادري لماذا , الى بيتنا , ثم اخضعتها النسوة المجربات لعملية تنظيف شاملة : كنت صغيرا انذاك ولم يعترض احد على وجودي في الغرفة .
حلمت , على ما اذكر , بالكدمات التي ورثتها عن المشي على الحواف , وبمغص البطن الذي كان ينجم عادة عن تناول وجبات اخفقت ” النملية ” في ابقائها سليمة .
حلمت … ليتني بقيت نائما .
من اشكال الحفاوة التي قوبلت بها هناك ان امي وضعت في مقر اقامتي ” بابور كاز ” للتدفئة , و ” فرشة ” ثقيلة مع المزيد من الاغطية , ودجاجة سمينة قيل انها ستذبح في الحال …وكان ثمة اطفال بكميات كبيرة ادركت انهم ولدوا في غيابي …
منذ متى لم ازر هذا المكان ؟
الحكاية بدأت هكذا : الحصول في وقت مبكر على عضوية ” رابطة الكتاب ” , والنوم في مقر الرابطة مستفيدا من المكتبة والانارة الجيدة والتأمل باعتباري وحيدا في المبنى : كان لي اغطية صادرتها الشرطة بعد صدور قرار عرفي حكومي باغلاق الرابطة وقد طالبت بهذه الاغطية فيما بعد , ولكن الوزير اكد انهم لم يعثروا عليها في المستودعات , وهكذا غدوت بلا مأوى وبلا غطاء …
انتقلت بعدها للاقامة هنا وهناك : كان يهمني ان اقرا واكتب دون حساب للظروف المحيطة : كنت مصمما على ان اصبح كاتبا عظيما .
واخذتني الصحافة بعد ذلك , وربما كان لأصدقاء السوء دور في ابتعادي اكثر واكثر عن بيت العائلة .
ها انذا من جديد في وادي الحدادة .. المنطقة تبدلت وتغيرت بعد شق وتعبيد ” شارع الاردن ” : صار الناس اكثر دماثة وتهذيبا , ولكني لاحظت ان هناك حرصا على التقاليد , وفي مقدمتها رمي القمامة كيفما اتفق والحفاظ على ” قدحة الثوم ” كرائحة مميزة في الازقة , وضرب الزوجات .
** وادي الحدادة …
انت لا تضجر هناك , ذلك انك تصبح سريعا طرفا في هراء عام محبب الى النفس , وزحام متعمد في اكثر الاحيان , والقطط متفهمة , وبنات مدارس سيكبرن بلمح البصر ويتمخضن تمشيا مع ” ام العبد ” . وعاطلين عن العمل جلسوا او وقفوا هنا وهناك هربا من حدة التأنيب في المنازل , وانا اراقب كل هذا من نافذة الغرفة . احاول ان اتلهى بمراقبة طفل مشاغب يمشي على سور المدرسة . هل يسقط ؟ الاغلب ان يسقط ويحصل بموجب هذا على كسر في اليد اليمنى / اليمنى تحديدا : لا قيمة للكسور بوجود” ام محمد ” , فهي تمتلك مهارات علاجية كفيلة بجعل العطب ابديا .
ما يزال الطفل يمشي على سور المدرسة , ما الذي يفعله هذا الصغير ؟ هل يحاول اقتحام المدرسة قبل الاوان ؟ مهلا ايها المشاغب , فأنت لم تكبر بعد , ولكنك سترتكب هذه الحماقة حتما / مثلما فعلها ” محمد طملية ” / وسيكون لك قريبا دفاتر واقلام رصاص مفطوعة و ” فرجار ” تخوض به شجارات لا مبرر لها , وحصة رياضة تفوح فيها رائحة الجوارب , ومدير مدرسة مرعب , وولي امر لا يشارك في اجتماعات مجلس الاباء لانه ميت , وسيكون لك اذا تماديت في النمو , حزب تنتمي اليه , وزنزانة ترقد فيها لمجرد انك تظاهرت احتجاجا على رفع الرسوم الجامعية . وسيكون لك اذا امعنت في التمادي اهتمامت سياسية ومواقف رافضة ودهشة بالغة ازاء الانهيارات المتتالية وغصة دائمة في الروح .
وانا متأكد انك سوف تجلس ذات يوم في هذه الغرفة لتراقب عبر هذه النافذة طفلا مشاغبا يمشي على السور..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى