نحو رؤية اقتصادية وطنية لما بعد الكورونا

نحو رؤية اقتصادية وطنية لما بعد الكورونا
ثانياً: رؤية “نهضة الأردن 2035”
أ.د أحمد العجلوني
باحث أكاديمي وخبير اقتصادي

ذكرت في المقال السابق بأنه بعد عبور مرحلة الإنعاش بأمان بإذن الله، ستكون مرحلة الترميم التي يجب ألا تزيد عن سنة واحدة، والتي يجب أن يلمس المواطنون آثارها الإيجابية المباشرة. وأؤكد على أن تكون إيجابية ولمصلحة جيب المواطن مباشرة لا على حسابه؛ لأنه ما عاد هناك بطون لشدّ الحزام عليها. ولا أقول هذا الكلام من باب دغدغة العواطف والكلام المعسول، وإنمّا بناء على معطيات واقعية يحاول البعض تغميتها علينا، ولأن الكل يعلم بأن مشكلة الاقتصاد الأردني تكمن في الفشل في إدارة الموارد وليس في ندرتها. إن اتخاذ الإجراءات التي ذكرتها في مرحلة الترميم في المقال الأول – أو حتى نصفها – كفيلة بالتأثير الإيجابي الملموس على موازنة المواطن العادي الذي تعتبر رفاهيته المقياس الأساس لنجاح أي إدارة اقتصادية. وهذه الإجراءات المباشرة لا تحتاج لأكثر من عدة أشهر، وبعضها يمكن الشروع به أو تنفيذه خلال شهر.
إن النجاح في اجتياز مرحلة الترميم سيؤدي إلى بناء قاعدة صلبة للانطلاق إلى المرحلة الثالثة، وسوف يساعد على رفع مستوى الثقة وتحقيق الدعم الشعبي الذي لا غنى عنه لهذه المرحلة المهمة. ولن يتم ذلك إلا بتغيير جذري ينبذ السياسة التي تعودنا علينا للحكومات المتعاقبة والتي تتمثل بالأخذ باليمين ما يعطى بالشمال، وتكرار مقولات مثل أن الخيارات محدودة وهامش المناورة ضيق….. الخ. لأن هذا كله ليس سوى محاولات تغطية على الفشل وعدم الجرأة في اتخاذ القرارات.
إن بلدنا الأردن بما لديه من موروث حضاري وتجانس بشري وموارد اقتصادية وبشرية لقادر أن يحقق النهضة والازدهار، ولنا درس في تجربة دولة رواندا التي خرجت من حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس (تذكرون قيام الهوتو بالإبادة الجماعية في حق التوتسي؟)، ثم نهضت بكلمة السر “مكافحة الفساد” وباتت مثالاً عالمياً ليس للبقاء فقط؛ وإنما للازدهار، وذلك بفترة أقل من 13 عاماً فقط، إذ تضاعف الناتج القومي لها بمقدار عشرة أضعاف؛ فبعدما كان لا يتعدى 900 مليون دولار سنة 1994، أصبح يناهز 9.14 مليار دولار سنة 2017. والأهم ان هذا الازدهار قد انعكس على الشعب مباشرة من خلال تطور مستوى المعيشة بكل مناحيها. وقبلها جزيرة سنغافورة منعدمة الموارد التي انتقلت من إقليم منبوذ فقير معدم في ماليزيا إلى دولة تتصدر مؤشرات النمو والتطور حول العالم.
لقد شاهدنا كيف كانت الإرادة السياسية العليا المتمثلة بجلالة الملك وراء ما تحقق من نجاح في الإدارة الصحية للأزمة من خلال قوة التنسيق والتعاون بين الجهات الصحية والأمنية. وأزعم بأن عزيمة كهذه لو تحققت للاقتصاديين المخلصين من أبناء البلد لإدارة الملف الاقتصادي لحققوا فيه نجاحات ستفاجئ العالم كله بما يستطيع الأردنيون عمله من النهوض والوقوف على أرجلهم، لا وبل تحقيق الازدهار والاعتماد على الذات واستقلال القرار. ولا يخفى التأثير الإيجابي لذلك على مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية، والتي تتطلب جبهة داخلية صلبة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
تتطلب رؤية “نهضة الأردن 2035” الاقتصادية إعادة هيكلة الاقتصاد الأردني على مستوى السياسات الاقتصادية الرئيسية (النقدية والمالية والصناعية والزراعية والطاقة) على أسس جديدة بهدف الوصول إلى حالة من الازدهار الاقتصادي المستقر خلال فترة 15 عاماً، وذلك من خلال تحقيق الأهداف الاستراتيجية التالية:
– تحقيق الاستقلال المالي بالحد من الاعتماد على المعونات والمساعدات الخارجية والاقتراض.
– تخفيض المديونية لمستويات آمنة.
– تقليل الاعتماد على المصادر الخارجية التقليدية للطاقة، باستغلال الموارد الموجودة داخل البلد وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة.
– تحقيق تميّز عالمي في صناعات معينة كالصناعات الدوائية والسياحة العلاجية.
– تطوير الإنتاج الزراعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية، والتركيز على التصدير النوعي.
– تطوير قاعدة صناعية صلبة.
– صناعة مالية متطورة بسوق مال متقدم ومؤسسات قطاع مالي (مصارف وشركات تأمين وغيرها) تساهم بشكل حقيقي في التنمية الاقتصادية.
– تطوير الموارد البشرية لتحقيق مستوى منافسة عالمي من خلال تطوير التعليم ودعم البحث العلمي والتعليم المهني.
وهذه الأهداف يتم بلورتها وتأطيرها ضمن خطط فرعية وأهداف مرحلية تتعلق بكل هدف، يتم التخطيط لها وتقديرها بشكل كمّي محدد ضمن برامج زمنية محددة.
إن تبنّي رؤية استراتيجية ليس شيئاً جديداً، والتفكير بواقعية التغيير الجذري للأفضل ليس حلماً صعباً، فهناك دول كانت أوضاعها أسوأ بكثير من وضعنا؛ ثم نجحت وارتقت من أسفل مدارك التخلف والفساد إلى مراقي الدول المتحضرة، ونستطيع أن نستفيد من تجاربها في بناء رؤية اقتصادية وطنية واضحة عابرة للحكومات تنتج من إجماع وطني وتلتزم بها كل الحكومات وتحدد أهدافها في إطار هذه الرؤية. وتكون هذه الرؤية بمحاور وأطر عامة تليها برامج تفصيلية تتعلق بكل قطاع اقتصادي. وتجيب هذه الرؤية عن أسئلة حول ما الذي نريده لاقتصادنا وما الذي نريد أن نكون عليه بعد خمسة عشر عاماً، وكيفية الوصول إلى ما نريد.
تبدأ أولى الخطوات العملية بالدعوة إلى مؤتمر وطني اقتصادي برعاية ملكية سامية، يكرّس لمناقشة أهداف الرؤية الاقتصادية وأولوياتها الوطنية، والخروج بتوصيات محددة لرسم خارطة الوصول إلى تحقيق رؤية النهضة. يسبق المؤتمر الوطني الاقتصادي مؤتمرات علمية وورشات عمل متخصصة تبادر لها وتشرف على عقدها الجامعات، تتضمن تقديم ومناقشة أبحاث وأوراق علمية رصينة تكون اساساً لبناء البرامج المتخصصة بكل هدف وكل قطاع اقتصادي.
إن ما يدفع للتفاؤل بإمكانية تحقيق “نهضة الأردن 2035 ” وجود قاعدة صلبة تتمثل بشعب واع ومدرك لأهمية المرحلة، سوف يضيف زخماً قوياً مسانداً للإرادة السياسية العليا. فالأردنيون شعب أصيل وفيّ لرسالة هذا البلد، وقد صبر وتحمّل الكثير في سبيل صموده، وسوف نجده في أفضل حالات العطاء والتميّز متى ما وجد إدارة حكومية مخلصة قوية. وقد اثبتت الأيام مراراً بروز المعدن الطيب لهذا الشعب في احترام سياسات الحكومة ودعمها عند الأزمات، ويترابط كما السد المنيع خلف القيادة كما رأينا في موضوع الوصاية الهاشمية على المقدسات وصفقة القرن وأزمة الكورونا.
إن التحدي الاقتصادي ليس بمعزل عن التحديات الأخرى السياسية والاجتماعية والأمنية، وواهم من يفكر بإصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي حقيقي وعدالة اجتماعية. وهذا يجب أن يكون من أهم متطلبات نجاح الرؤية، فنحن بجاجة إلى منظومة كاملة عنوانها الاقتصاد وأركانها الإصلاح بكل جوانبه.
ليس لدينا ترف إعادة تجريب وصفات اقتصادية ذقنا مرارتها على مدى ثلاثة عقود من الانحدار. وإننا إن بقينا على هذا الحال ولم نتقدم في إنجاز مرحلة الترميم ثم البدء في التخطيط للرؤية والشروع بتنفيذها؛ فإن الهامش سيضيق أكثر والخيارات ستكون أصعب. وأخشى أن يترسخ اليأس والإحباط وغلق آفاق الانفراج أمام الناس-لا قدّر الله- حتى يصل بهم الأمر أن يعانوا من تبعات قد تكون أسوأ من تدهور الأوضاع الاقتصادية. إن التهاون والتراخي له ثمن كبير جداً، ولن أصفه بأقل من خذلان الوطن والتقصير المتعمد في القيام بواجب الأمانة.

حفظ الله الأردن وأدام ازدهاره
https://www.facebook.com/ProfATAlAjlouni/

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى