فوكوشيما… والدروس المستفادة / د . اسماعيل العطيات

فوكوشيما … والدروس المستفادة

بمناسبة مرور 7 سنوات على كارثة فوكوشيما النووية التي حدثت في 11 آذار 2011 ، وبدعوة كريمة من الجمعية الفلكية الأردنية، قمت بالقاء محاضرة ، بحضور مجموعة متميزة من علماء الفلك والفيزياء والأكاديميين والمهندسين والمهتمين حول مشاهداتي وانطباعاتي حول واقع الحال في فوكوشيما من خلال ما شاهدته في زيارتي لليابان مطلع العام الحالي، فقد تعرض الشاطئ الشرقي لجزيرة هونشو اليابانية التي تضم طوكيو ومقاطعة فوكوشيما الى زلزال عظيم وصلت قوته الى 9 درجات على مقياس ريختر على عمق 32 كيلومتر ، وتبعه أمواج بحرية عاتية ” تسونامي ” ، وصل ارتفاع بعضها الى 14 متر ثم اندفع بعضها الى مسافة 10 كيلومتر في عمق مقاطعة فوكوشيما وأجزاء كبيرة من جزيرة هونشو ، وقد غمرت أمواج التسونامي المفاعلات النووية الستة في المحطة النووية، مما أدى الى انصهار جزئي لقلب 3 مفاعلات وحدوث انفجار داخل مفاعل رقم 2 ، ونشوب عدة حرائق في المفاعل الرابع نتيجة الانفجارات ، ونجم عن الكارثة النووية وفاة 16 ألف شخص بشكل فوري ، اضافة الى حدوث 24000 حالة وفاة على مدار السنوات السبعة اللاحقة ، وحتى اليوم فان ما يزيد عن 174 ألف مواطن ما زالوا مهجرين لا يتمكنون من العودة الى منازلهم ومزارعهم وأعمالهم بسبب التلوث الاشعاعي والدمار في مناطق سكنهم وعملهم ،في حين أن أكثر من 2600 شخص ما زالوا مفقودين، وما يزال مستوى الاشعاع ضمن دائرة نصف قطرها 20 كيلومتر من مبنى المحطة النووية فوق المعدل المسموح به ، وما زال آلاف الأطنان من أكياس التراب الملوث بالاشعاعات في كل مكان من فوكوشيما ، وفي الوقت ذاته فان عملية اعادة الاعمار تسير ببطئ ولم تتجاوز نسبة الانجاز 20% من المشاريع الضرورية رغم الامكانات الكبيرة لدولة اليابان مما يدل على حجم الدمار الناتج عن الكارثة ، وحاليا ما تزال الشركة المشغلة للمحطة النووية في فوكوشيما تحاول تبريد الوقود النووي الذي انصهر داخل المفاعلات بعد الحادثة ، ويعود ذلك الى أن انصهار الوقود النووي سينجم عنه اطلاق اشعاعات خطيرة ، وفي سياق تبريد هذا الوقود فان المياه الناجمة عن التبريد تخرج من المفاعل ملوثة ومن ثم تتسرب الى داخل الأرض ، حيث يتم استخدم 400 طن من المياه النظيفة الصالحة للشرب يوميا لتبريد المفاعل والتي يتم تخزينها بعد استخدامها لمنعها من تلويث المنطقة والمحيط.

كذلك فقد نجم عن الاشعاعات المنبعثة من المحطة النووية المنكوبة أن تلوثت مياه الشرب والتربة والمواد الغذائية والثروة الحيوانية والاخلال بالتنوع الحيوي في مياه المحيط، وبدأت الإشعاعات تصل إلى الدول الواقعة على المحيط الهادئ، وربما تنتقل حول العالم عبر تيارات المياه الحارة والباردة التي تجوب المحيطات وتدور حول العالم ، وبناء عليه فقد شرع العالم اليوم بمراقبة كل ما ينتج في اليابان، حتى القطع الإلكترونية الدقيقة وقطع المركبات الكبيرة سوف يتم مراقبتها إشعاعياً، الأمر الذي سوف يؤدي إلى أضرار عظيمة بالاقتصاد الياباني على المدى البعيد ، وتؤكد الدراسات الطبية اليوم أثر الإشعاعات النووية المؤينة على العاملين في المفاعلات النووية والسكان الذين يعيشون بالقرب من المفاعلات النووية، حيث تزداد نسبة الإصابة بسرطان الدم خلال مدة تصل الى خمس سنوات بعد تعرضهم للإشعاعات، وتظهر الإصابات بالسرطان خلال مدة تتراوح بين 10 – 40 سنة. كذلك تطلق المفاعلات النووية غازات مشعة يتم جمعها في المحطة وتطلق في الهواء عندما ينخفض نشاطها الإشعاعي .
وبناء عليه، فإننا نتيقن أن الطاقة النووية في هذا العصر غير نظيفة وغير مستدامة، من حيث استخدامها لليورانيوم الطبيعي المحدود الكمية في العالم والذي يتوقع أن يشرع في النضوب في غضون عقود محدودة من الزمن، أو من حيث ضررها على البيئة من حيث إنتاج كميات كبيرة من الغازات الدفيئة خلال مراحل تصنيع الوقود النووي وإنشاء المفاعلات وهدمها بعد نهاية عمرها التشغيلي، أو من حيث خطورة المواد المشعة التي يمتد ضررها لملايين السنين القادمة . ورغم أنه قد مضت خَمسُ أعوام على كارثة محطة فوكوشيما دايتشي للطاقة النووية والتي تعتبر أسوأ حادثة نووية في التاريخ على غرار كارثة مفاعل تشيرنوبيل النووي عام ١٩٨٦. فانه الآن يعمل في محطة الطاقة النووية بفوكوشيما نحو ٧٠٠٠ عامل يوميا في عمليات تفكيك المفاعل كما توجد هناك مجموعة خزانات ضخمة لتخزين المياه الملوثة بالإشعاعات النووية ، وتؤكد المصادر العلمية أنه وفقا لجداول الأعمال لدى كل من شركة طوكيو للطاقة الكهربائية المشغلة للمحطة النووية ، والحكومة، بأنّ عملية تفكيك المفاعلات النووية قد تستغرق فترة زمنية لا تتجاوز ٤٠ سنة كحد أقصى من تاريخ وقوع الحادث المأساوي لكنِّ بعض الخبراء يشيرون إلى أن ”استكمال تفكيك المفاعلات النووية سيحتاج إلى ١٠٠ سنة“ حيث لم يتم التمكن حتى الآن من العثور بشكل دقيق على أماكن تسرب الوقود المنصهر ضمن المفاعلات رقم واحد واثنين وثلاثة. ولا تزال بحوث وعمليات مسح استطلاعي جارية على قدم وساق بغية استقدام خبرات محلية وأجنبية للإسهام في إزالة الوقود المنصهر الذي يعتبر العقبة الأكبر في عملية التفكيك بِرُّمَتِها.
ان ما شاهدته بأم عيني من آثار الكارثة في فوكوشيما مفزع مرعب ، وان أول الدروس التي يجب أن يتعلمها العالم من كارثة فوكوشيما النووية أن الادعاء بأن الطاقة النووية طاقة نظيفة آمنة لا يكتنفها أي مخاطر هي كذبة كبيرة ، فالمادة الخام لتشغيل المفاعلات النووية ” اليورانيوم ” يرتبط تعدينها بتلويث كبير للبيئة ، ناهيك عن مخاطر التسريب الاشعاعي والانفجارات ، ومعضلة التخلص من النفايات النووية، وكلفة تفكيك المفاعلات عند انتهاء عمرها التشغيلي . أما ثاني هذه الدروس فهي وصول العالم الى قناعة تامة بضرورة اعتماد استخدام الطاقة المتجددة النظيفة التي تدعى ” طاقة السلام ” .
واذا علمنا أن ما يسقط على الكرة الأرضية من الاشعاع الشمسي في الساعة الواحدة يكفي لتلبية احتياجات العالم أجمع من الطاقة الكهربائية لمدة سنة كاملة ، فاننا سندرك مقدار تلكؤنا في استثمار هذا الكم الهائل النظيف والمتجدد من الطاقة ، ولعل من النتائج الايجابية التي حققها قطاع الطاقة الأردني مؤخرا انخفاض نسبة الطاقة المستوردة من 97% عام 2014 الى نسبة 95% من كمية الطاقة الاجمالية المستخدمة عام 2017 ، ومما يدعو الحكومة الى مزيد من الاستثمار لزيادة حصة الطاقة المتجددة من مزيج الطاقة أن الشمس تشرق على المملكة 316 يوما بالسنة بمعدل 8 ساعات يوميا ، أما بالنسبة لطاقة الرياح فان العديد من مناطق المملكة تمتاز بسرعة رياح تتراوح بين 7 و 8.5 متر في الثانية، وهي سرعة ملائمة لبناء المحطات التي تستغل طاقة الرياح لتوليد الطاقة الكهربائية.
وقد حققت وزارة الطاقة خلال عام 2017 زيادة نسبة مساهمة الغاز الطبيعي (الأقل تلويثا للبيئة) في توليد الطاقة الكهربائية وصولا الى نسبة 87%، مقابل 13% مساهمة الديزل.وفي تصريح يثلج الصدر لوزير الطاقة الأردني مطلع شهر آذار الجاري، أفاد أن الطاقة المتجددة من شمس ورياح قد رفدت النظام الكهربائي في المملكة حتى نهاية 2017 بحوالي 402 ميجاواط، وستصل الى نحو 1700 ميجاواط مع نهاية عام 2018، وما زلنا نطمح ( كناشطين بيئيين مو اطنين) بصدور توجيهات واضحة من سيد البلاد بوقف المشروع النووي الذي يثقل الموازنة العامة للدولة ويفاقم المديونية ، ويكتنفه الكثير من الغموض والمخاطر والأسئلة التي لا تجد جوابا مقنعا لها ، ونطمح كذلك في زيادة مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة بنسبة أكبر ووتيرة أسرع، حفاظا على البيئة وتخفيفا عن كاهل الوطن والمواطن ورحمة بميزان المدفوعات.

ismailatiyat@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى