الجندرة / د. هاشم غرايبه

الجندرة

كثيرون لا يفطنون الى المعاني الدقيقة في قوله تعالى:” فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”، كما أن أغلب المفسرين مخطئين إذ يعتبرون ذلك قولا لامرأة عمران، لكن التدقيق في الصياغة يبين لنا أن امرأة عمران قالت هذا القول عندما عرفت أن المولود أنثى، لأنها كانت تأمل أن يكون ذكرا، ينقطع قولها بجملة معترضة بقوله تعالى ” وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ” ثم تعود لتكمل بالقول:”وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”.
دليلي على ذلك أن الصياغة كانت نقلا على لسان أم مريم باستعمال ضمير المتكلم (إِنِّي وَضَعْتُهَا)، ثم تحولت الى الغائب(وَضَعَتْ)، إذا تغير المتكلم هنا إذ أصبح في هذا الجزء هو ناقل الخبر ذاته، وهو الله عز وجل، ثم تعود أم مريم لتكمل بصيغة المتكلم من جديد(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا).
المعنى الدقيق المستنبط من وراء إدخال كلام الله عز وجل وسط الجملة التي قالتها امرأة عمران على سبيل الإعتذار الى الله، أنه تعالى لا يوافقها على رأيها بل صححه لها، والجملة المعترضة أسلوب لغوي يستعمل لتوضيح المعنى وإزالة اللبس، وسميت هكذا لأنها تعترض الكلام أي تقطع الحديث فورا حتى لا يذهب فهم السامع الى اتجاه خاطيء.
ثم يتبين لنا وجه الإعتراض بأمرين: أولهما أن الله يعرف إن كان الجنين سيصبح ذكرا أو أنثى، فهو إذا متكوّنٌ بإرادته، والثاني أن الذكر ليس أفضل من الأنثى، والدليل على ذلك استعمال حرف (الكاف) الذي يفيد التشبيه والتماثل كقولهم: زيد كعمرو، ولكنه يفيد المقارنة للتفضيل اذا سبق بحرف نفي، كقولهم: ليس زيد كعمرو، ودائما يكون الأفضل هو من ألحق بالكاف.
ولو كانت جملة:” وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى” قالتها أم مريم لكان الأولى أن تكون:”وليست الأنثى كالذكر”.
إذاً هكذا ينقلب المعنى الذي كان في الأذهان، فالأنثى في هذه الآية هي المفضلة، لكن التفضيل هنا ليس مطلقا، بل هو في حالة خاصة، لأن الله أرادها أنثى وأنشأها كذلك لسبب يعلمه، وهو ولادة المسيح عليه السلام.
الإعجاز القرآني البلاغي يتمثل في دقة المعاني والإختصار في استعمال المفردات، فلا يمكن إيجاد صياغة بيانية بكلمات أقل ولا حتى بحرف واحد، مع ذلك نلاحظ العديد من الآيات التي تحتوي على تكاليف، يَرِدُ فيها الخطاب للذكر والأنثى كل على حدة كما في الآية 35 من سورة الأحزاب، فلماذا كان تكليف الذكر لا يُغني عن تكليف الأنثى مع أنه في العربية يجوز مخاطبتهما جمعا بالمذكر؟
السبب هو أن الإسلام يتعامل مع الذكر والأنثى على التساوي:” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً “، فالمساواة في التكليف تعني مساواة بالحقوق والواجبات، ولا تعني أبدا التماثل والتطابق في الأدوار.
لقد خلق الله كل الكائنات الحية وفق نظام الذكر والأنثى، لا تستقيم الحياة بأحدهما دون الآخر، التمييز لصالح الذكر هو تعدٍّ وظلمٍ بشري تاريخي، وليس من جوهر الشريعة.
الحركات التي تنادي بإزالة جميع الفوارق بين الذكر والأنثى(الجندر)، هي عبث جديد من صنع الإنسان، وهي ظلم آخر للمرأة وليس انتصارا لها.
المطلوب حماية حقوقها على أن تبقى امرأة، ولا يحقق ذلك بالوجه الأكمل غير تطبيق تشريعات من خلقها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى