.في فمي ماء

[review]
لدينا في الموروث الشعبي فوبيا هائلة من الماء بشكل عام، ومن الماء الراكد بشكل خاص، حتى دخل هذا الخوف المبالغ فيه في الأمثال والحكم الشعبية بصورة سلبية مثل: لا تخافوا غير من الميّ الراكدة ، ميه من تحت تبن.. وذلك عند التحذير من شخص هادىء الطباع مسالم الملامح خبيث النوايا والخفايا ، وكذلك المثل القائل: ماشية المي من تحتي ومش داري للإشارة الى الطيبة والسذاجة لمن جرت من ورائه الأحداث دون ان يشعر.*** أذكر أن أول رحلة مدرسية قمنا بها في مدرسة ابن عربي الابتدائية كانت الى سدّ زقلاب ..لم تنم العائلة بجميع أفرادها عشية الرحلة خوفاً من وقوعي في سدّ زقلاب ..بصراحة لا يلامون، فاسم السدّ بحد ذاته يثير الذعر في الأفئدة، فهو يوحي بالزقلبة والوقوع غزّ في مائه العميق…أخي الأكبر كان يقبّلني كل دقيقة دون مبرّر للتقبيل – من وجهة نظري على الأقل- ثم اكتشفت لاحقاً أنه يتودّع منّي ..كلما أحضرت غرضاَ ووضعته في الحقيبة ..يقترب منّي ويقبّلني ..اذا ما حضرت علبة طون ، يقترب مني ويقبّلني، ليمونة صغيرة ، مفتاح علب: يقترب مني ويقبلني، سكين ،3 حبات برتقال يقترب مني ويقبّلني ..أما أخي الأوسط فقد اشترى لي ب 10قروش قضامة مملحة ودسّها على مرأى من الجميع في حقيبة الرحلة بملامح حزينة..واكتفت إحدى الأخوات بالبكاء الصامت وهي تكفّ لي بنطال الرحلة بخيط أسود طويل …أمّا أمي فكان قلبها ناقزها من الرحلة منذ أن أخذت موافقة ولي الأمر..وظلّت تسبّح بمسبحتها المئوية دون تعليق طيلة تلك الليلة..ثم تقول بصوت مرتفع كل خمس دقائق لا اله الاّ الله ومحمّد رسول الله ..وبعد أن تختم مسبحتها كانت تفركها بيديها وتحذّرني للمرّة الألف يُمّه لا تقرّب ع المي.. في دوّايات..والمي هناك بتشرق شرق فأهزّ رأسي موافقاً – فكلمة تشرق شرق- يعني أن الدوّاية قد تمدّ يدها وتتناولني وأنا على الضفة الأخرى. ثم كانت ترجوني ليطمئن قلبها.. برضاي عليك ما تنزل من الباص ..فأهز رأسي وأرخي شفتي لأثبت أني موافق على الرجاء وصادق النيّة..لا أخفيكم أن الجو العام كان يدبّ الرعب في قلبي..فحدس الجميع يدلّ على أنّي سأغرق لا محالة..رغم أني أخاف من جريان الحنفية..ومن النظر في خزّان الدار..بل بتّ أعيش دور الغريق كما يجب..فوضعت في جيبي ورقة مكتوب بها اسمي واسم الوالد ورقم التليفون، وديَنْي الذي في عنق أخي محمود والبالغ 30 قرشاً..في حال تمت عملية غرقي بنجاح..وبحثت في عتمة الدار عن تيوب عرباية لأضعه في حقيبتي علّي احتاجه في حال شرقني ماء السدّ وانجررت الى أعماقه..في الصباح الباكر قام المعلّم بتعليق كراتين مستطيلة على الزجاج الأمامي والخلفي مكتوب عليه رحلة مدرسية، لمدرسة ابن عربي الابتدائية للبنين الصفوف رابع أ و ب و ج الى سد زقلاب..ثم توجّهنا الى السد..عند الوصول، لم أنزل من الباص بتاتاً رغم انه متوقّف على مسافة 500متر من السدّ، وبقيت أتفرج على الماء الراكد المسالم كجفن طفل من الشباك..بالمناسبة لم اكن الوحيد الذي لديه فوبيا من الماء.. خالد الجاجة أيضا خلع ملابسه كلها وكأنه يتهيأ للسباحة ، ثم توجه الى الكرسي الخلفي وجلس بشورت رياضة أزرق وفتح علبة سردين ..** ما عليكم..لقد اكتشفت مؤخراً أن حياتي جزيرة يحيطها الماء من كل الجهات:- ففي طفولتي: في عقلي الباطن ماء ..وفي رجولتي:عطش للحق.. وفي فمي ماء ..ahmedalzoubi@hotmail.comاحمد حسن الزعبي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى