البوعزيزي والمثقفون.. في مفهوم البطولة

سمير البرقاوي – ثلاث صور ستظل حية لا تمحى من ذاكرتي، ومن ذاكرة الأمة حتماًً، نظراًً لحجم المأساة التي عبّرت عنها ولما نتج عنها من أحداث مصيرية.
الأولى: يظهر فيها الشاب البوعزيزي في حفل عائلي في فصل الشتاء يلبس سترة داكنة اللون يرفع يديه مصفقاًً، على وجهه ابتسامة يجهد لكي لا تكون حزينة، كما هي ابتسامات الفقراء عندما يجدون متنفساًً في هذه الحفلات ليدفنوا بها شقاء أيامهم. أما الثانية، للبوعزيزي وهو يحترق بعد أن سكب البنزين على جسده وأضرم النار، إثر مصادرة «مصدر رزقه»؛ عربته التي يستخدمها لبيع الخضار.
والصورة الثالثة، له أيضاً ملقىً على فراش المستشفى، جسده مغطى بالكامل باللفافات الطبية بسبب الحروق، ويظهر بالصورة الرئيس التونسي (المخلوع لاحقاً) بعدما اضطر بسبب الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية احتجاجاًً على ما حدث للبوعزيزي، أن يأتي «خانعاًً» لزيارته، وهو الذي حينما جاء له من أخبره بما فعله البوعزيزي قال: «خلّيه يموت».
هذه الصور الثلاث قد تكون قادرة على تلخيص سيرة حياة البوعزيزي، الشخصية التي تحولت من شاب مغمور يبيع الخضار على عربة، إلى محرك للثورات في الوطن العربي، البوعزيزي البطل، الذي أشعل جسده فاشتعل الشارع العربي، وأنار بلهيب النار التي احترق بها، الطريقَ التي ستعبر عليها الجماهير العربية.
لكن الحقيقة وببساطة ليست كذلك، فالبوعزيزي ليس بطلاًً، ولم يكن يحلم أو يريد أن يكون بطلاًً عندما أقدم على إحراق نفسه، فهو فعلَ ما فعل فقط عندما تراكم عنده الذلّ والإحباط واليأس والإهانة اليومية إلى مدى لم يعد يطيقه أكثر من ذلك، سواءً أصدَقت قصةُ صفعة الشرطية له أم لم تصْدُق.
هو لم يكن أكثر من أي مواطن مسحوق على امتداد الوطن العربي، لديه أحلام شبيهة بأحلام الفقراء والمهمشين والمضطهدين، أحلام قد تبدو صغيرة وتافهة، لكنها أقصى أحلامه، كان يحلم، مثلاًً، بأن يعود للبيت بمبلغ بسيط من المال يساعد في تسديد جزء من مصروفاته التي لا تنتهي، يحلم بأن يرى ابتسامة والدته وهو يضع بين يديها القليل من النقود، يحلم بسهرة مع أصدقائه في مقهى تنسيه قرف النهار الطويل وتنسيه التفكير بالغد، يحلم لو يستطيع أن يوفر شيئاًً لزواجه القادم..
لكنه خلال ذلك لم يشأ -ولم يُرِد- أن يكون بطلاًً، أحرق نفسه عندما اقتنع بأن الحياة بلغت من القسوة ومن الظلم ما سدّت به أمام وجهِهِ أيّ بارقة أمل، ولهذا كتب لأمه مودعاًً إياها: «مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام، ضايع في طريق ما هو بإيديّا، سامحيني كان (إن كنت) عصيت كلام أمي. لومي على الزمان ما تلومي عليّ، رايح من غير رجوع. يزّي (كثيرا) ما بكيت وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد الناس. أنا عييت ومشى من بالي كل اللي راح، مسافر ونسأل زعمة السفر باش (أن) ينسّي»، ثم ذهب إلى قراره فراراًً من هذه الدنيا.
فكيف تحول البوعزيزي إلى بطل؟
هذه من دون شك براعة المثقفين، فتحويل الضحية إلى بطل يعفيهم من التقصير ومن تأنيب الضمير (هذا في حال إن بقيت روح في هذا الضمير)، فالبوعزيزي كبطل يعني أنه جزء من الوعي الذي صنعه المثقفون من خلال أعمالهم التنويرية والتثقيفية والتثويرية.. بينما البوعزيزي كإنسان محبط ويائس ومظلوم يمثل إدانة للمثقفين عندما يثار التساؤل عن موقعهم ودورهم وموقفهم وانحيازاتهم وأعمالهم.
فقد قرر المثقفون العيش في أبراجهم العاجية بعيداًً عن الجماهير قولاًً وعملاًً، وباتت أقصى أمانيهم جائزة تمنحها دولة أو ثري مثقف أو مدّعي ثقافة وتذكرة سفر بالطائرة وغرفة في فندق خمس نجوم لحضور مؤتمر، وإنجاز وكتابة أعمال لا يقرؤها إلا العث والغبار.. لقد انشغلوا بالحداثة وما بعد الحداثة، وبالبنيوية والتكعيبية، وبلغة تمجد ذاتها فتُنتج جمالية جوفاء بلا قيمة، وغموضاً يفضي إلى عتمة، وجهالة تدمر الوعي ولا ترتقي به.
لو كان المثقفون أكثر انتماء لشعوبهم ولقضاياها، لو كانوا أكثر التحاماًً مع مشاكل الأمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية (الاحتلال، الدكتاتورية، التسلط، التعذيب، الفقر، الفساد، الجوع، الجهل، الظلم، غياب التعليم، إهمال العناية الصحية، نهب الثروات، تبديد الثروات، إهمال البنية التحتية.. إلى آخر القائمة الطويلة التي لا تنتهي).. لو كانوا أكثر انتماءًً، لا أقول إن العالم كان من الممكن أن يصبح أكثر جمالاًً، ولكن على الأقل كان سيصبح أقل قبحاًً مما هو عليه الآن.
هذا العالم القبيح الذي قتل البوعزيزي كنا نحن جزءاًً أساسياًً منه، لم نقم بالسكوت عنه فقط، بل عملنا -علمنا أو لم نعلم- على تجميله، بل وساعدنا على بنائه.. دم البوعزيزي (أعني لحمه المحترق) ودم الكثيرين أمثاله وعذابات الكثيرين وآلامهم على امتداد هذا الوطن العربي، نتحمل نحن إثمه، لأننا سكتنا عن الدكتاتور وأفعاله.. وربما وصفّقنا له أيضاً.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى