لأولي الألباب

لأولي #الألباب
د. هاشم غرايبه

ثمة اكتشاف علمي جديد، ربما أحدث انقلابا في بعض المفاهيم العلمية السائدة، فقد تبين أن الأعضاء الحيوية في الجسم (كالقلب والرئتين والكلى ..الخ) ليست خاضعة تماما لسيطرة الدماغ، بل هي تتلقى منه بعض التعليمات، لكنها تتصرف في كثير من الأحوال ذاتيا أو بأوامر من جهة أخرى، وتتبادل (المعلومات) مع الأعضاء الأخرى، فيتم التنسيق لأداء المهام المشتركة بناء على ذلك التوافق.
ربما سيمهد ذلك الإكتشاف للتعمق في معرفة سيرورة النظام العام في الجسد، ثم فهم أين هو #العقل؟.. هل هو في الدماغ كما هو اعتقاد العلماء الى الآن، أم هو في مكان آخر، أم أنه حصيلة التقاء أدوار مختلفة لأجهزة متعددة في أكثر من مكان.
فما نسميه العقل ليس كيانا ماديا، بل هو مجموعة عمليات معقدة متداخلة تتم بسرعة هائلة، تتناول أمرا ما بالبحث والمقارنة مع ما يقابله من معلومات مختزنة في الذاكرة، وتحليل المعطيات، والاستقراء فالاستنتاج، ثم تقدير المصلحة والمخاطر والمنافع، وعرض الإحتمالات المختلفة، وأخيرا الحكم الذي يكون تقديريا ووفق المعطيات السابقة، بدليل الإختلاف بين قرار الأفراد المتعددين لو طلب منهم التحكيم في مسألة محددة.
هذه القدرات ليست لها وحدات قياس بل هي تقديرية، والحكم بامتلاك المرء الحد الأدنى منها هو عندما يتمكن المرء اعتمادا على تحكيم عقله من الإقتناع بأمر غيبي استنادا الى آثاره المادية أو المنطقية.
هذا الأمر ليس نقيضا للبحث التجريبي، والذي لا ينطبق الا على الأمور المادية، وفيه يتم تكوين القناعات بناء على الملاحظة المحسوسة، وعند التأكد من وجود ثابت يربط جملة متغيرات تعطي نتائج واحدة ان تماثلت المعطيات، يعتبر ذلك سنة كونية ثابتة، أي ما يسميها العلماء القوانين الطبيعية.
لقد أشار القرآن الكريم الى ذلك الأمر، فهنالك مسمى العلماء، وهم الذين يعرفون معلومات عميقة عن موضوع محدد، لكن هنالك مسمى أولي الألباب، وهم ليسوا بالضرورة علماء بل هم ذوي قدرات استيعابية تمكنهم من فهم ما يعرض عليهم.
اللب لغة هو ما يكون في المركز، ومركزيته تؤكد أنه المؤثر وأنه الأهم، فيكون كل ما حوله يحميه، لذا تكون البذرة في النبات في مركز الثمرة، لأنها أهم جزء في النبتة.
وعند الإنسان، اللب يعني العقل والحكمة، ولذلك سمي من يتميز بالذكاء والحصافة في الرأي باللبيب، ومن هنا جاءت تسمية الله تعالى (أولي الألباب) لتلك الطائفة من البشر الذين يستعملون عقولهم على أفضل وجه، فيستوعبون ما يسمعون بسرعة، ويفهمون المسألة التي تعرض عليهم، ويجدوا لها في عقولهم تفسيرا، فأول منتج كان الإيمان بالغيب الذي أعلم الله به الناس، لأن محاكمتهم العقلية كانت من الرقي بحيث تمكنت من استيعاب ما هو ليس محسوسا ولا مرئيا، فآمنت، فتلك كانت درجة اللبيب استحقاقا للمرء المؤمن، لكن الأعلى هي (أولي الألباب)، والتي تعني التميز بقدرات عقلية تمكنهم من فهم الغيبيات على حقيقتها وإن لم يروها، وقد تصل الى رسم صورة متخيلة لها في خيالهم ربما هي قريبة من الحقيقة.
هكذا نتوصل الى أنه لا يشترط في ذي اللب أن يكون عالما، بل قد نجد عالما متبحرا في باب، لكن ذهنه غافل عن أبواب أخرى، وهذا واقع، فكثيرا ما تشاهد طبيبا بارعا لكنه لا يفهم شيئا في السيارات، أو عالما في الرياضيات لكنه يعجز عن اصلاح قابس كهربائي بسيط.
القرآن الكريم كلام الله، أي هو أصل العلم المطلق، ونجد فيه الكثير من الإشارات الى العقل، ولعل أوضحها: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” [الحج:46].
إذاً هنالك إشارة واضحة الى أن العقل هنا في القلب، وأراد الله أن يزيل أي لبس في الأمر، فأكد أن يعني القلوب التي في الصدور.
حبذا لو توجه علماء مؤمنون يعملون في الغرب حيث يحظون بالرعاية والتمويل للبحث العلمي، للبحث في هذا الأمر بدل الإنتظار الى أن يكتشفه الغربيون … وعندها يهرولون صائحين: هذا الأمر ذكره القرآن قبل خمسة عشر قرنا!.
ذوي الألباب لا يمكن أن لا يعرفوا الله، فالعلم بكتاب الله أعلى العلوم درجة، ويليه العلم بأوامره (الدين)، ثم العلم بسننه وأفعاله (العلوم الطبيعية والحياتية).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى