القدس ، ومسار أنصاف الهزائم / د. محمد الزغول

القدس ، ومسار أنصاف الهزائم

قرار الرئيس الأمريكي المستفزّ والمجحف حول القدس، والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على الأقصى سوابق خطيرة، سواء في الكيفية التي تمّت بها، أو الأبعاد السياسية والدينيّة التي انطوت عليها، لكنّ هذا ليس هو الخبر الأسوأ، بل هناك ما يفيد بأن مثل هذه الاعتداءات مرشَّحة للاستمرار والتفاقُم، ليس على الأقصى فقط، بل على كل ما تبقّى للفلسطينيين من فُتاتِ حقوقٍ في الأرض والإنسان. ولعلّ خير ما يلخص الوضع القائم هو القول المأثور: من أمِن العقوبة أساءَ الأدب.

لم يعُد سرّاً، ولا جزافاً القول بصراحة بأنّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو الاحتلال الأقلّ كُلفةً على المُحتلّ ربّما في التاريخ البشري كُلّه. هذا الادّعاء ليس عربياً فقط، بل سمعته في لقاءات ومؤتمرات عدّة من باحثين غربيين كبار، ومنهم باحثين يهود أخذَتْهم بعض الشفقة على ما نحن فيه. في أحد الحوارات الجانبية على هامش مؤتمر دولي في إحدى العواصم العربية، قلتُ مُمازحاً أحد الأصدقاء اليهود الأمريكان المختصين في شؤون الشرق الأوسط: (أنتم اليهود بُخلاء بالفطرة، لماذا لا تعطوا الفلسطينيين “قطعة من كيكة فلسطين”، وننتهي من هذه القصة؟ القوم لا يطلبون منكم الكثير، يريدون الرّبع أو أقل، فعلامَ كل هذا الحِرْص من جانبكم؟). قال بسرعة وبدون تردُّد: وأنتم العرب أغبياء بالفطرة، لماذا يتعيّن علينا إعطاء قطعة منها، ما دام يمكننا الاحتفاظ بها كاملة؟ تبّاً لنا ولكم، قلت له. وقهقهنا بصوت مرتفع. ما يريد أن يقوله الرجل، هو أن على الفلسطينيين أن يرفعوا كُلفة الاحتلال على إسرائيل، إن أرادوا استرجاع جزء من أرضهم المحتلة.

هنا في المشرق جدلٌ عقيم طويلٌ يمتدّ بعمر القضية الفلسطينية حول مَنْ، يحقّ له اتّهام مَنْ، بضياع فلسطين؟ وهذا يعني ضمناً أنّ الجميع يُقرّون بالهزيمة، ولا يُظهرون رغبة في المقاومة، لكنّهم يريدون فقط تصفية الحسابات بينهم.

مقالات ذات صلة

عسكرياً، هذا بالضبّط ما تعنيه الهزيمة؛ فأنْ تهزم عدوك، يعني أن تكسر إرادته على المقاومة. لكنّ الهزيمة الكاملة تقتضي أيضاً الاعتراف بها من قبل المهزومين؛ وهو ما يعني التخلي عن المُكابرة، وإجراء مراجعة عميقة لكلّ ما أدى إليها. مراجعة لا تستثني أي من “التابوهات” والمحرّمات، وتُفضي إلى رسم مسار آخر مختلف تماماً عن المسار الذي أدّى إلى الهزيمة. وهذا لم يحدث هنا، بل ظلت الهزيمة قائمة عملياً، لكنّ دون العمل بمقتضياتها.

الكاتب الأردني إبراهيم غرايبة كان الأشجع في طرحه عندما تحدّث عن أنّ المقاومة لم تكن فعلاً ذاتياً فلسطينياً وعربياً بعد حرب 1948، بدليل أنّ الجميع، غالبين ومغلوبين، استأنفوا حياتهم العادية في اليوم التالي للحرب، واستغرق القيام بأوّل فعل مُقاوِم حقيقي حتى عام 1968. وفي التاريخ الحديث أمثلة عدّة يمكن المقارنة معها، فبعد سقوط بغداد عام 2003، أصبح لدينا مؤشرات على وجود مشروع حقيقي لمقاومة الاحتلال الأمريكي بعد أسبوع أو أقل فقط من سقوط نظام صدّام. مع التحفظ طبعاً على الفوارق الكثيرة بين الحالتين. سيقول كثيرون أنكما لا تعرفان تاريخ القضية، وأنّ هناك “مقاومات” وأحداث كثيرة جرت خلال هذه الفترة، ببساطة أردّ: لم تكن كلّ تلك المحاولات بمستوى يمكنه إحداث فارق في البعد الاستراتيجي للقضية.

وكما أوضح غرايبة، لا يُمكن الفصل تاريخياً أيضاً بين ازدهار فكرة المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينات وبين المدّ اليساري السوفياتي في العالم العربي، والموجة القوميّة الناصريّة والبعثيّة التي لم تكن في عُمقها الاستراتيجي، أكثر من مُناكفة سوفياتية للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. وبالتالي لم يصعب على إسرائيل هزيمتها عام 1967، أو تحييدها عام 1973.

وعلى الرّغم من كلّ أشكال التعبئة والحشد، والعمليات العسكرية المحدودة في الداخل والخارج، لم نشهد انطلاق “انتفاضة / ثورة” شعبية فلسطينية في الداخل ضدّ الاحتلال إلّا في أواخر الثمانينات. ولعلّ انتفاضة أطفال الحجارة الأولى 1987، كانت المؤشر الحقيقي الأول على وجود فعل مقاوم فلسطيني. حينها كان قد مضى على الاحتلال أكثر من 40 عاماً؟! واللافت في الأمر أنّ أبطالها كانوا في معظمهم من الشباب دون العشرين عاماً.

كان يمكن لهذه الانتفاضة، والانتفاضات اللاحقة، أنْ تُؤسِّس لمشروع مقاومة فلسطيني “وطني” حقيقي، لولا دخول “الإخوان المسلمين”، وذراعهم في فلسطين “حركة حماس” على الخطّ. إذْ تحوَّل مشروع المقاومة إلى “إسلامي”. وبالتالي، شئنا أم أبينا، فقد أُدخِلت في مشروع المقاومة كلّ تناقضات ومظالم العالم الإسلامي، وتدخّلت فيه كل “قيادات” المسلمين، ترسم مصيره واتجاهاته، بدعوى أنّه يخصّهم جميعاً، فهو “إسلامي”.

اليوم تبدو جدوى “إسلامية” المقاومة أمام اختبار حقيقي، فبعد إخفاق الخيار العربي بعد هزائم 67 و73، واستلاب الخيار الوطني، أو عدم وجود رافعة شعبية له، في أوائل التسعينات، لم يبقَ اليوم منْ خيار سوى “الانتظار”؛ انتظار أن يهبّ المسلمون لنصرة قضيتهم ومقدّساتهم، وعلى رأسها “المسجد الأقصى”، وذلك في وقت طالت فيه قائمة قضاياهم، وتعدّدت مصائبهم، واستفحلت صراعاتهم وخلافاتهم.

اتفاق المصالحة الفلسطينية 12 أكتوبر 2017، ومساعي قيادتي “فتح” و”حماس” لتصفير المشكلات والخلافات في الداخل الفلسطيني، واستعادة زخم العلاقات مع الأشقاء في المحيط العربي والإسلامي، وبخاصة رغبة “حماس” في استعادة علاقتها مع الأردن، كلّها أحداث مُبشّرة وطيّبة تصُبّ في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وإبعادها عن الاستقطابات والمناكدات السياسية الإقليمية. لكنّ السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح الآن، هو حول ماذا يتصالح الأشقاء؟ هل يتصالحون حول صيغة لتقاسم السلطة، أم يتصالحون حول صياغة مشروع “وطني” للتحرير؟

هذه “الجردة” القاتمة ضرورية ولا بدّ منها، قبل مُقاربة أيّة تصوُّرات للحلول والمسارات البديلة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً. شخصيّاً أتبنى منذ بضع سنين، رأياً يقول بأن المسار السابق كلّه، منذ “وعد بلفور” إلى الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، كان خاطئاً، لأنّه تركّز على تحرير الأرض (بحسب أولويّة القوميين) والمقدسات (بحسب أولويّة الإسلاميين)، ونَسِي أو تناسى عن قصد، وبفعل عوامل حضارية وإقليمية، تحريرَ الإنسان، الذي هو أهم بكثير من كليهما.

أزعم أنّ مفتاح الحلّ للقضية الفلسطينية يكمن في مفردَتين الإنسانيّة، والوطنية. وفي ذلك تفصيلٌ، قد يتاح لي الخوض فيه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى