العالم العربي في عين العاصفة : صعود دور المجتمع المدني

العالم العربي في عين العاصفة : صعود دور المجتمع المدني
بقلم د. لبيب قمحاوي

الاقليم العربي يتحرك متململاً حيناً وغاضباً أحياناً ولكنه على الأقل ابتدأ يتحرك. والأهم من كل هذا وذاك ، أن الاقليم ابتدأ يتصرف كإقليم يعاني من نفس المشاكل والأمراض ويسعى الى الحلول ذاتها تقريباً من خلال المناداة بنفس المطالب ، علماً أن الحراكات الشعبية المختلفة على الرغم من تفاوت درجاتها ، تُجَابَه بنفس التعنت من الحكام وإن بدرجات متفاوتة إما من العنف أو اللامبالاة أو الاستجابة المحدودة أو خليط من هذا وذاك . والعرب الذين أثبتوا أنهم غير قادرين على صنع البدايات نحو التطور والتحديث يبدوا أنهم أصبحوا قادرين على صنع النهايات حتى ولو أدت تلك النهايات الى العنف أو الدمار بحكم تعنت الحكام و غضب الشعوب . فالنضال بالأغاني و الأشعار و الروايات العنترية هي جزء من الثقافة العربية و الموروث الحضاري الذي تعاني منه الأجيال الجديدة من العرب في سعيها الى التغيير نحو الأفضل . و هذه الأجيال تنطلق في مسعاها من خلفية سلبية من الفشل و التخاذل و الأوهام التي عاشتها الأجيال السابقة و أوصلتنا الى ما نحن عليه الآن .
التعامل مع الاقليم العربي ليس بالأمر السهل . فالاقليم موَحَّد في مشاكله ممزَّق في كل شيء آخر تقريبا ، وعوامل الفرقة كانت تاريخياً هي السائدة على عوامل الوحدة وما زالت . وثوابت الإقليم و مصالحه المشتركة كانت خاضعة بشكل متواصل لأمزجة ومصالح حكام مستبدين فرضوا إرادتهم على شعوبهم وعلى الدول التي يحكمون . وهذا جعل من مستقبل الإقليم كماً مجهولاً لا يمكن التعاطي معه بإسلوب علمي و ضمن منظور المصالح المشتركة .

مسار الأمور كان يوحي بتوجه عام لتجزئة و تقسيم بعض دول الإقليم ، ولكن هنالك ما يوحي مؤخراً بتطور هذا المسار إلى توجه عام لإعادة تشكيل الإقليم الشرق أوسطي و دوله بشكل عام. إن إعادة التشكيل هي ظاهرة سلبية كونها لا تعكس نوايا التغيير نحو الأفضل بقدرما تعكس الرغبة في إعادة تشكيل الإقليم و دوله بما يتناسب ورغبات و مصالح الدول الكبرى المؤثرة على مجرى الأحداث في الإقليم .

الاستبداد والفساد الذي دفع بالعديد من الأنظمة الحاكمة في الإقليم الى العمل على
إضعاف مؤسسات الدولة الدستورية و الرقابية قد أضعف مع مرور الوقت دول
الإقليم نفسها ، و جعلها عرضة للتداول من قبل القوى الأكبر في العالم دون أي فرصة حقيقية للتصدي لذلك العدوان أو القدرة على وقفه. وهكذا ، فإن مَنْ جَهَّزَ الأرضية
وجعل من إعادة تشكيل دول الإقليم أمراً ممكنا جاء من رحم تلك الدول ولا مجال هنا
أمام العرب مثلاً للوم الآخرين على ما هم فيه من إنهيار متواصل مما قد يؤدي بالنتيجة
إلى إضمحلالهم أو زوالهم سواء ككيانات سياسية أو حتى كأمة فاعلة .

مقالات ذات صلة

إن اندثار العرب كأمة لا يعني موتها بقدر ما يعني عودتها إلى الإصول القبلية بحيث تتحول الأمة إلى مجموعات قبلية و عشائرية و عرقية و دينية و مذهبية تعتز بإثم ما قد يفرقها و تتجاهل أو تخشى ما يجمعها مما قد يدفع الأمور بإتجاه إضعاف مفهوم الأمة انطلاقاً من تضاؤل الحاجة إليها و تَوَلُدْ شعور لدى الشعوب بأن مفهوم الأمة لم يعد منسجماً مع مصالحهم .

مفهوم الأمة يعكس في أصوله قبولاً عاماً لمجموعة من الشعوب بالقواسم المشتركة التي تجمعهم و قناعتهم بأن تلك القواسم سوف تخدم مصالحهم العامة التي تربطهم كشعوب ضمن مفهوم الأمة . و محاولة تفسير تلك المعادلة البسيطة بلغة عقائدية لن يضيف شيئاً هاماً بقدر ما قد يساهم بتعقيد مفاهيم بسيطة ضمن رؤيا عامة أساسها تولد قناعات جديدة لدى الشعوب نتيجة للإنهيار المتواصل في أوضاعها السياسية و الإقتصادية و المالية و الحياتية ، و فشل مفهوم الأمة في أن يكون منصة النجاة لتلك الشعوب في محنتها المتفاقمة .

الأمة هي خيار وليست مصيراً ، و الهوية الوطنية هي مصير أكثر منها خياراً . فالمصري مثلاً يستطيع أن يكون عربياً مصرياً أو مصرياً فقط إذا شاء ، ولكنه لا يستطيع أن يكون قبطياً فقط أو مسلماً فقط بدون هويته الوطنية المصرية لأن كينونته التي يُعَرف بها نفسه أمام شعوب أخرى هي هويته الوطنية كمصري ، أو بالمقياس نفسه كعراقي أو أردني أو لبناني إلخ اللهم إلا أذا كانت تلك الهوية مفروضة بالقوة القهرية أو الإحتلال المباشر كما حصل للفلسطنيين في فلسطين المحتلة عام 1948 .

ما نحن بصدده الآن هو عدوان عام مستمر على كلا المفهومين : الأمة و الهوية الوطنية لصالح هويَّات أخرى أضعف بهدف شرذمة الإقليم الى كانتونات و دويلات بل و تجمعات بلا هوية وطنية أو مرجعية عربية .

الإنهيار المتوقع للإقليم لن يكون وليد الصدفة أو نتيجة لقرار أو إجراء معين ، بل سيكون النتيجة الطبيعية لمسار طويل من السقوط على كل الجبهات السياسية و الأمنية و الإقتصادية و الأخلاقية ، بالإضافة إلى انهيار المنظومة الحامية لقيم المجتمع و قدرته على التماسك في وجه المتغيرات السلبية و الصعوبات التي قد تعصف به .

إن كل حديث يتعلق بالإقليم يستحضرفي العادة نظرية المؤامرة و الشّك بما يجري يإعتباره أمراً تقف وراء حدوثه امريكا أو إسرائيل أو كليهما . قليلون هم الذين يؤمنون بأن شعوب المنطقة قادرة على التحرك بشكل مستقل دون إيعاز من أي جهة أجنبية سوى المصلحة الوطنية أو المطالب الحياتية . و لعل في ذلك الإدعاء ما قد يفسر رغبة الأنظمة الحاكمة و نهجها في ربط أي محاولة للتغيير بجهات أجنبية كوسيلة للتشكيك في مصداقية تلك الحراكات و الإنتفاضات و كمبرر لقمعها بإعتبارها امتداداً لنفوذ جهات أجنبية . إن الوقوع في فخ التخوين سياسياً هو مرادف للوقوع في فخ التكفير دينياً ، و كلاهما يسعيان الى الحفاظ على الأمر الواقع و منع نهج التكفير و التغيير و التطوير مما يفسح المجال بالنتيجة للتطرف و للمزيد من التطرف .

الموقف التقليدي المتمثل بوضع الشعوب أمام خيار واحد لا ثاني له وهو إما القبول
بالأمر الواقع أو الدمار ، قد تم كسره وتجاوزه إلى حد ما في تونس و السودان . أما
أكبر مثال فهو ما يجري الآن في لبنان و العراق و إلى حد ما في الجزائر و ذلك
بإعطاء المجتمع المدني الدور الأكبر في النضال من أجل التغيير بوسائل سلمية مدنية
تتميز بالمثابرة و التصميم مع الإبتعاد عن العنف ما أمكن . وقد نجح المجتمع المدني
في لبنان حتى الآن في تحييد المؤسسة العسكرية والميليشيات من خلال الإصرار على
الوسائل السلمية . إن عبقرية التقدم مثلاً ببديل “العرض المدني” عوضاً عن
” العرض العسكري ” إحتفالاً بعيد استقلال لبنان مثال حي على عبقرية النهج الثوري
و السلمي لإنتفاضة المجتمع المدني اللبناني على الطبقة الحاكمة الفاسدة واستعماله
لوسائل مبتكرة في التعبيير عن تصميمه على التغيير بالوسائل السلمية ومن خلال
المجتمع المدني . هذا مع الأخذ بعين الإعتبار أن دموية الحراك الشعبي في العراق لم
تأتِ من المجتمع المدني العراقي الذي كان ضحية لذلك العنف ، بل جاءت من قوى الأمر الواقع الحاكمة و إصرارها على قمع الإنتفاضة الشعبية بقسوة و دموية منذ البداية ، على أمل أن يشكل ذلك العنف الدموي رادعاً أمام استمرار الإنتفاضة أو إستفحالها . وهذا الأمر قد يعود في أصوله الى قوى إقليمية تهدف الى المحافظة على الأمر الواقع و ميزان القوى داخل العراق وبالشكل الذي تراه مناسباً لمصالحها . وهكذا فإن مصدر العنف قد يكون من خارج العراق بالرغم من كون بعض أو معظم أدواته التنفيذية عراقية .
إن إنهيار حكم العسكر و الدور السياسي القائد للمؤسسة العسكرية أصبح الآن أمراً شبه محسوم والقضية قضية وقت حيث أن نهوض المجتمع المدني أصبح حقيقة واقعة
بغض النظر عن بطئ أو سرعة هذا التحول الإستراتيجي في العلاقة بين أنظمة الحكم
العسكرية أو شبه العسكرية و شعوبها ممثلة بالمجتمع المدني . و على أية حال فإن سقوط دور المؤسسة العسكرية في إدارة الدولة و الشؤون السياسية و الإقتصادية فيها لم يجئ فجأة و إنما جاء كنتيجة حتمية للصراع الخفي الدائر بين المؤسسة العسكرية الحاكمة و فروعها من جهة ، و الدولة المدنية و مؤسساتها من جهة أخرى . إن طبيعة ذلك الصراع و على مدى عقود من الزمن تأرجحت بين الخنوع الصامت و المقاومة السلبية و الإحتجاجات الغاضبة العنيفة أحياناً .

إنحسار دور المؤسسة العسكرية في السياسة وفي إدارة شؤون بلدانها هو جزء من
سقوط الأنظمة السياسية المستبدة و الفاسدة ومعها الدولة العميقة التي تحمي مصالح
تلك الأنظمة . وهذا الأمر لم يعد ترفاً يمكن الإستغناء عنه ، بقدر ما أصبح شرطاً
أساسياً لعبور الصعاب الاقتصادية والحياتية و السياسية التي تجابهها معظم دول العالم
النامي (العالم الثالث) والتي تتطلب تكاتف الجهود الوطنية من خلال المجتمع المدني
في البلد المعني . وهذا التطور لا يقتصر على دول العالم العربي بل سوف يمتد ليشمل
دول الإقليم بشكل عام . ومع أن حرية الشعوب قد تبدو مرضاً معدياً في نظر الأنظمة
الحاكمة ، إلا أنها تبقى في نهاية الأمر حقيقة تحتم على الجميع احترامها و القبول بها
سواء من خلال الإستجابة الطوعية أو الإستسلام القهري لإرادة الشعوب لما هو محتوم في نهاية المطاف.
lkamhawi@cessco.com.jo

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى