موسم الهجرة إلى العالم افتراضي / د. قـــدر الدغمــي

موسم الهجرة إلى العالم افتراضي

الحياة الوهمية عبر الإنترنت أو ما يسمى بالعالم الافتراضي هو المكان الذي يلجأ إليه البعض وغالبا ما يكونون هاربين من واقعهم الحقيقي، فتجدهم مسخرين اغلب وقتهم لهذه الحياة، فهم يهربون من حياتهم الواقعية، إلى حياة الخيال، وهو مكان يستخدم فيه الناس أسماء وصورا مستعارة، لكي يمارسوا فضيحة قول الحقيقة، هربا من واقع منافق لدرجة الاستفزاز، يخفي وجهه الحقيقي وراء مئات الأقنعة.
لا شك بأن التكنولوجيا في وقتنا الحاضر يسرت وسهلت التعارف والتنقل والتجول بنقرات بسيطة على أزرار الجهاز المحمول وبأي وضعية يكون فيها الفرد جالسا على كرسيه أو حتى مستلقيا على سريره، وتجسدت وارتسمت الحياة الافتراضية في شاشة صغيرة يغطيها كف اليد ويقلبها كيفما يشاء ويستطيع الدخول والخروج منها وقت ما يشاء، امتثالا وتطبيقا لمقولة نيتشه: “جئنا إلى هذا العالم لكي نمنحه معنى” ..!
إن اغلب من يعيش بهذا العالم يفعل عكس ما يفعله في حياته الحقيقية، فمثلا تجد السمين القبيح يختار صورة لشاب جميل ذو جسم متناسق كي يخلق صورة عكس واقعة، وتجد الفتاة القبيحة تضع صورة لفتاة جميلة ممشوقة القوام، كي تهرب من واقعها المّر الذي تعاني منه، وتعيش بذاك العالم الذي صنعته لنفسها، وهنا تعرف مكامن الضعف لكل منهم، وتستطيع تشكيل انطباعك عن شخصيتهم الحقيقية من خلال نقيض ما تشاهده في الواقع.
في هذا الموسم نجد العديد من الكتّاب عبروا إلى “الفيسبوك” خاصة ممن كانوا يملؤون علينا صباحاتنا الرتيبة بقصصهم وأحلامهم الصغيرة، ومواضيعهم المثيرة للجدل احيانا، وقد حجزوا لأنفسهم مقاعدا على متن يخت “الفيسبوك” السريع، واستبدلوا مهنة الكتابة الطويلة بهواية المنشورات.
حالهم هذا يشبه حال أصحاب المطاعم الكبيرة والفخمة، ممن كانوا يقدمون لزبائنهم قائمة طعام راقية وشهية، ونتيجة لأزمة مالية ما لم تكن في الحسبان، اضطروا إلى اغلاق مطاعمهم واستبدلوها بأكشاك على قارعة الطريق العام، تبيع للمارة مناقيش الزعتر والجبن والفلافل والدخان المهرب.
هكذا هو الحال بعد زمن المقالات الدسمة، التي كان أصحابها يصبرون عليها أياما وليالي طويلة، حتى تستوي على نار هادئة، جاء عصر “البوست” المنشورات القصيرة، المعدة للاستهلاك السريع، مقابل حفنة “ﻻيكات” وسطور ركيكة من “التعليقات”.
المؤسف جدا في الأمر أن العديد من هؤلاء الكتّاب، ولكي يثبتوا هويتهم “الفيسبوكية” الجديدة، اضطروا أحيانا إلى المشاركة في حفلات ومنتديات للعري والعهر الثقافي، وقلة الأدب اللغوي، وكأن النشر هنا بات يعني بالضرورة الغرق في “الضحالة الثقافية”، فهل يا ترى الانتقال من القلم إلى “الكيبورد”، يعتبر انقلاب جذري على صعيد الكاتب، والنص، والقارئ، والثقافة برمتها ..؟
البعض من رواد العالم الافتراضي صنع لنفسه شخصيه وهمية، تناقض شخصيته الحقيقية، بل أنه وصل لمرحلة متقدمة جداً بتقمص الأدوار، تفوقوا بها على كبار ممثلين “هوليوود” وهنا تكمن المشكلة، فمهما أحسنت تمثيل الدور إلا انك ستنكشف مع الوقت كونك تقول ما لا تؤمن به في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع.
السؤال الكبير الذي يحضرني هنا ماذا يا ترى لو اختفى العالم الافتراضي ..؟ وما هو البديل عنه ..؟ وما هو مصير رواده من هؤلاء ..؟ أظن بأن الحياة الواقعية مهما قست فهي جميلة، وبها اشياء كثيرة يمكن أن تسعدنا، فلنحاول أن نجربها لنكتشف أن هناك فرق بين عالم الوهم والواقع الحقيقي فمهما كان الوهم جميل يبقى الواقع أجمل بكثير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى