عَقَقْتُهُ فِي الصِّغَرِ فَعَقْكَ فِي الْكِبَرِ

عَقَقْتُهُ فِي الصِّغَرِ فَعَقْكَ فِي الْكِبَرِ

الْكَاتِبَةُ :-هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَشْكُو إِلَيْهِ عُقُوقَ ابْنِهِ فَأَحْضَرَ عُمَرُ الْوَلَدَ وَ أُنّبِّهَ عَلَى عُقُوقِهِ لِأَبِيهِ وَ نِسْيَانِهِ لِحُقُوقِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْوَلَدُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ لِلْوَلَدِ حُقُوقٌ عَلَى أَبِيهِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ عُمَرُ : أَنْ يَنْتَقِيَ أُمَّهُ وَ يُحْسِنَ اسْمُهُ وَ يَعْلّمَهُ الْكِتَابَ أَيْ “الْقُرْآنَ ” . قَالَ الْوَلَدُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنّ أَبَي لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَمَّا أُمِّي فَإِنَّهَا زِنْجِيّةٌ كَانَتْ لِمَجُوسٍ… وَ قَدْ سَمّانِي جُعْلًاً أَيْ ” خَنْفُسَاءَ ” وَ لَمْ يُعَلّمْنِي مِنْ الْكِتَابِ حَرْفًاً وَاحِدًاً . فَالْتَفَتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الرَّجُلِ وَ قَالَ لَهُ : جِئْتُ إِلَيّ تَشْكُو عُقُوقَ ابْنِكَ وَقَدْ عَقَقْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَعِقّكَ، وَ أَسَأْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُسِيءَ إِلَيْكَ .
أَصْبَحْنَا الْيَوْمَ فِي زَمَنٍ يُثِيرُ إِلَى الشَّفَقَةِ وَ الْحُزْنِ ، زَمَنٌ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كُلِّيًّاً عَنْ زَمَنِ أَبَائِنَا وَ أَجْدَادُنَا زَمَنَهُمْ كَانَ لِلْأَبِ هَيْبَةٌ كُنَّا نَشْعُرُ بِالْخَوْفِ وَ كَأَنَّنَا قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا بِالنَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ عِنْدَمَا تَقُولُ لَنَا أُمَّهَاتُنَا ” عِنْدَمَا يَأْتِي أَبُوكُمْ سَأُخْبِرُهُ بِمَا فَعَلْتُمْ ” كُنَّا نُرَتِّبُ الْحُجَجَ وَ التَّبْرِيرَاتِ حَتَّى نُخَفِّفَ الْعِقَابَ سَوَاءٌ كَانَ نَفْسِيًّا أَوْ جَسَدِيًّا ، كُنَّا نَحْسِبُ لِلْأَبِ أَلْفَ حِسَابٍ ” إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ أَبِي سَيُوبِّخُنِي ؟ لَنْ أَقُولَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَبِي سَيَغْضَبُ مِنِّي ؟ وَ الْكَثِيرُ الْكَثِيرُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَجْعَلُنَا بَعِيدَيْنِ كُلَّ الْبُعْدِ عَنْ الْحَرَامِ وَ الْعَيْبِ وَ الْخَطَأِ لِأَنَّ آبَائَنَا كَالصُّقُورِ عَلَى أَبْنَاءِهِمْ ،
شَرَعَ الْإِسْلَامِ حُقُوقَ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْأَبَاءِ وَ أَوَّلُهَا -إِخْتِيَارُ الْأُمِّ .

لَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ صِفَاتِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَنْ يُرَاعِيَهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلِّمَ قَالَ: ” تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا
وَلَدِينِهَا: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ” مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.

مقالات ذات صلة

وَ عَلَيْهِ فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ مَنْ يَكُونُ مِعْيَارُ اخْتِيَارِهَا عَلَى الدِّينِ، فَإِذَا كَانَتْ دَيْنَةً، وَ مِنْ بَيْتِ صَالِحٍ فَلَا حَرَجَ بَعْدَ الدِّيْنِ أَنْ تَكُونَ غَنِيَّةً، أَوْ حَسِيبَةً، أَوْ جَمِيلَةً، الْمُهِمُّ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ
هُوَ الْأَصْلُ.
ثَانِيًاً – الْأَسْمَاءُ ، فَيَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَخْتَارَ أَسْمَاءً جَمِيلَةً
وَ حَسَنَةً حَتَّى يَسْتَطِيعَ الِابْنُ أَنْ يَتَعَايَشَ مَعَ اسْمِهِ وَ أَنْ يُشْعِرَ
بِالْفَخْرِ وَ الِاعْتِزَازِ إِذَا نُودِيَ بِاسْمِهِ ، لَا يَعْتَرِيهِ الْهَمُّ وَ الْحُزْنُ
وَ يَضَيقُ وَ يُصْبِحُ نَاقِمًاً عَلَيْكَ بِسَبَبِ هَذَا الِاسْمِ الْقَبِيحِ
وَ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَسَنًاً لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَ الدَّارِمِيُّ وَ ابْنُ حِبَّانَ وَ أَحْمَدُ: ” إِنَّكُمْ تَدْعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِأَسْمَائِكُمْ وَ أَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَحَسِّنُوا أَسْمَاءَكُمْ “.

وَ نَأْتِي لِأَهَمِّ الْأُمُورِ أَلَا وَهِيَ الصَّلَاةُ ،
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: مُرُوا
أَوْلَادُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَ اضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا
وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. أَخْرَجَهُ
أَحْمَدُ وَ أَبُو دَاوُدَ.

يُؤَدَّبُ الصَّبِيُّ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ
بِالْقَوْلِ ثُمَّ الْوَعِيدُ ثُمَّ التَّعْنِيفُ ثُمَّ الضَّرْبُ.
يَا أَيُّهَا الْأَبُ هَلْ قُمْتَ بِكُلِّ ذَلِكَ ؟ هَلْ أَحْسَنْتَ بِاخْتِيَارِ
الزَّوْجَةِ ؟ هَلْ فَكَّرْتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَبْنَائُكَ لَهُمْ عَلَيْكَ حَقٌّ ؟ لِأَنَّهَا سَتَكُونُ أَمًّاً لَهُمْ مَجْبُورِينَ وَلَيْسُوا مُخَيَّرِينَ مِثْلَكَ .

يَا أَيُّهَا الْأَبُ هَلْ قُمْتَ بِاخْتِيَارِ الِاسْمِ الْحَسَنِ لِابْنِكَ أَوْ ابْنَتِكَ ؟
هَلْ جَعَلْتَ أَوْلَادَكَ يَفْتَخِرُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَ يَعْتَزُونَ بِهَا ؟ إِذَا
نَادَاهُمْ أَحَدٌ قَالَ أَنَا فُلَانٌ وَ ابْنُ فُلَانٍ كَمَا يَقُولُ الْمَثَلُ “بِالْفَمِ الْمِلْيَانِ ” .
هَلْ عَلِمْتَ أَوْلَادَكَ عَلَى الصَّلَاةِ ؟ هَلْ جَعَلْتَهُمْ يُصَلُّونَ بِجِوَارِكَ ؟ هَلْ أَخَذْتَ بِيَدِهِمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَ عَلِمْتَهُمْ وَهُمْ فِي سِنِّ السَّابِعَةِ مِنْ عُمُرِهِمْ ؟ أَمْ كُنْتُ مَشْغُولٌ بِإِعْطَائِهِمْ الْأَلْعَابَ وَ الْمَبَالِغَ الْمَالِيَّةَ وَ السَّمَاحِ لَهُمْ بِالذَّهَابِ مَعَ رِفَاقِهِمْ وَ الْجُلُوسِ بِالْمَقَاهِي وَغَيْرِ ذَلِكَ .

هَلْ عَلِمْتْهُمُ الْكِتَابُ وَ جَعَلْتْهُمْ يَتَدَبَّرُونَ آيَاتِهِ ؟
قَالَ تَعَالَى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالِهَا ).
لَا يُعْقِلُ أَنْ يَكُونَ طِفْلًا أَوْ حَتَّى شَابًّا وَ يَمُرَّ عَلَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
مُرُورُ الْكِرَامِ عَلَى مَعَانِيهَا .
وَ قَالَ تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّاَّ تَعْبُدُوا إِلَّاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًاً كَرِيمًاً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًاً) [الْإِسْرَاءِ:23، 24].

فَانْظُرْ أَيُّهَا الْقَارِئُ الْكَرِيمُ كَيْفَ يَرْبِطُ السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، إِعْلَانًا لِقِيمَةِ هَذَا الْبِرِّ عِنْدَ اللَّهِ، وَ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ النِّدِّيَّةِ وَ الصُّوَرُ الْمُوحِيَةِ يَسْتَجِيشُ الْقُرْآنَ وِجْدَانَ الْبَرِّ وَ الرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الْأَبْنَاءِ نَحْوَ الْآبَاءِ، نَحْوَ الْجِيلِ الذَّاهِبِ، الَّذِي يَمْتَصُّ الْأَبْنَاءَ مِنْهُ كُلَّ رَحِيقٍ وَكُلِّ عَافِيَةٍ ، وَكُلُّ اهْتِمَامٍ، فَإِذَا هُمَا شَيْخُوخَةٌ فَانِيَةٌ إِنْ أَمْهَلَهُمَا الْأَجَلُ وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ سَعِيدَانِ.

(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )(الِاسْرَاءُ: مِنْ الْآيَةِ24)
تَعْبِيرٌ شَفَّافٌ لَطِيفٌ يَبْلُغُ شَغَافَ الْقُلُوبِ وَ حَنَايَا الْوِجْدَانِ . فَهِيَ الرَّحْمَةُ: رِقَّةٌ وَ تَلْطَفُ حَتَّى لَكَأَنَّهَا الذُّلُّ الَّذِي لَا يَرْفَعُ عَيْنًا، وَ لَا يَرْفُضُ أَمْرًا، فَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلّا الْإِحْسَانَ؟!.

هَذَانِ هُمَا وَالدَّاكُ .. كَمْ آثَرَاكَ بِالشَّهَوَاتِ عَلَى النَّفْسِ، وَ لَوْ غَبَّتْ عَنْهُمَا صَارَا فِي حَبْسِ، حَيَاتِهِمَا عِنْدَكَ بَقَايَا شَمْسٍ ، لَقَدْ رَاعَيَاكَ طَوِيلًا فَارْعُهُمَا قَصِيرًا: ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

كَمْ لَيْلَةً سَهَرًا مَعَكَ إِلَى الْفَجْرِ، يُدَارِيَانِكَ مُدَارَاةَ الْعَاشِقِ فِي الْهَجْرِ، فَإِنْ مَرِضَتْ أَجْرَيَا دَمْعًا لَمْ يَجْرِ، لَمْ يَرْضَيَا لَكَ غَيْرَ الْكَفِّ وَ الْحَجَرِ سَرِيرًا فَ :(قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
يُعَالِجَانِ أَنْجَاسَكَ وَ يُحِبَّانِ بَقَاءَكَ، وَ لَوْ لَقِيتَ مِنْهُمَا أَذًى شَكَوْتَ شِقَاءَكَ ،كَمْ جَرْعَاكَ حُلْوًا وَ جَرَعْتَهُمَا مَرِيرًا ، فَهَيَا بِرْهُمَا وَ لَا تَعْصِهِمَا وَقُلْ:(رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

يَا أَيُّهَا الْأَبُ الِابْنُ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْرَةٍ يَجِبُ أَنْ تُهِيئَ
لَهَا التُّرْبَةُ الْخِصْبَةُ وَ الْمَاءُ الصَّالِحُ وَ الظُّرُوفُ الْمُنَاسِبَةُ الَّتِي تَجْعَلُ الْبَذْرَةَ تَنْمُو إِلَى ثَمَرَةٍ ، حَتَّى تَكُونَ الثَّمَرَةُ صَالِحَةً لِلْأَكْلِ وَ نَتَذَوَّقُ طَعْمَهَا اللَّذِيذَ أَوْ نَضَعَهَا فِي سَلَّةِ الْمُهْمَلَاتِ وَ نَنْدَمُ عَلَى تَعَبِنَا الَّذِي ضَاعَ هَبَاءً مَنْثُورٌ .
وَأَنْتَ أَيُّهَا الِابْنُ مَهْمَا كَانَ الْأَبُ عَاقًّا بِكَ لَا تَنْسَ أَنَّهُ أَبُوكَ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَدَكَ فِي هَذَا الْعَالَمِ .
وَ اتَّبَعَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ ” :(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء:36].

وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بِرَّهُ أَبْنَاؤُهُ، وَ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ عَقَّهُ أَبْنَاؤُهُ وَلَابُدَّ . فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَبْرَكَ أَبْنَاؤُكَ فَكُنْ بَارًّا بِوَالِدَيْكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلِّمَ: “بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ..”.
كَمَا يَقُولُ الْمِثْلُ ” كُلُّ شَيٍّ قَرْضٌ وَ دَيْنٌ حَتَّى دُمُوعِ الْعَيْنِ “.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى