غسان كنفاني يعود من موته . (1) / منصور ضيف الله

غسان كنفاني يعود من موته . (1)

(كان ثائرا مخدوعا ، وفنانا مخدوعا ، وعاشقا مخدوعا . خديعة الحياة وفضيحتها . المرة الوحيدة التي لم يخدع عندما دوى صوت هائل في بيروت . اجتمع السابلة ، والعابرون ، والعاطلون . كتبت الصحف : ( اغتيال غسان وبرفقته ابنة أخته ) .

أعشاب جافة قديمة تتناثر حول قبر قديم . نسيه الجميع في غمرة حياتهم ، واحتفالهم بمشاريع لن تولد ، وبمواليد ستبتلعهم أرصفة الطرقات ، وليل المدائن والمدافن. لم يكن القبر منسيا بالمعنى المطلق ، وليس مهملا بالمعنى النسبي ، فثمة يمامتان اعتادتا ان تمارسا الحياة ، تبيضان هناك وتستقران ، ثم تغادران بعيدا في فضاء الله .

كل شيء يمضي في مقبرة اليرموك ، الخراب ، والنسيان ، ودم الشهداء . الا غسان ، فدمه كان بحيرة من بجع ، خريطة من نوارس ، تفاصيل صغيرة من شوارع حيفا العتيقة ، ودمعة في دروب الهجرة الأولى .

مقالات ذات صلة

زاوية القبر العتيقة ، ونقاط الضوء الخافتة ظلت ترسم المشهد بحنين غامر . بقي القبر متشبثا بحجارته ، تسللت بقع الضوء الى بيروت . انثعبت خيوطا تسابق ليلها ، وتشعل حمرتها فجرا نديا . استقرت في فردان ، قريبا من أطرافه الملتوية ، تجمع نثار اللحم ، ودم الخديعة ، وروح الزمن ، وتعيد المشهد كاملا بكل تفاصيله .

قطع اللحم طرية ، وكسر العظم رطبة ، ونثارات الدم لزجة . لم تكن مهمة صعبة ، غابت الخيانة ، وغابت فكرة تبريرها وحمايتها ، لم تعد شعارا ، تراجعت الى ما وراء جزر العرائس في عمق البحر والظلمة .

نقاط الضوء تتكاثف ، تتضخم ، وتكتسي لونا ورديا بكامل بهائه ، تتكامل بسرية تامة ، تتكامل أكثر ، ترتقي قطع اللحم عظما نقيا ، وينفجر في المكان هيئة خيال ، يتعمق الخيال مشغولا بجمع ما تبقى ، تتوزع ظلال جديدة ، ترتد مرة وتتعمق أخرى ، ثم تتجمع في دوائر متراكمة ، تستطيل الدوائر وتتربع وتتمدد ، تدخل دورة سريعة . يشتعل المكان بموت الغياب ، وألق الحضور ، لقد عاد . غسان يعبر فردان . لم يكن يحمل سوى دمه وفلسطين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يموت البعض ليمنح حياة ، حين يكون في موته بعث لقلوب عزيزة ، وتموت السنابل لتمنح خبزا ، تتفجر حناجر العنادل لتهب فجرا باسما ، تتكسر صخور صماء لتعطي نبعا من الحياة يرتويها العطاش ، لا عدل في الدنيا ، والموعد على ميزان الحساب عند مليك مقتدر ، لا يخفى عليه حال ، ولا يدوم عنده حال ، ويا غسان ، يا حامل شعلة الحزن والأسى والخديعة ، ليس من يخدعنا إلا أنفسنا ، فاهنأ برقدة نثارك ، وأعلم أن البعث قادم ،هذه عدة الله في البشر وموعدته ، رب بعث جديد اخرج الأزرار من رحم التراب ، ونشر الخزامى والشيح والأقحوان في أرض جرداء .

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى