دور الأسرة في الإسلام / د. هاشم غرايبه

النظام الإجتماعي في الإسلام يرتكز على الأسرة كوحدة بنائية أولية ، وهو الاختلاف الجوهري عن أي نظام آخر من منتج بشري ، والذي يعتمد على الفرد بغض النظر الى انتمائه لأسرة أو لا . تنسحب تبعات هذا الفارق على أمور كثيرة فارقة ، يحاول من يسعى لإفراغ الإسلام من مضامينه ، بهدف إبعاده عن التأثير في حياة الناس ، وإبقائه مجرد طقوس تعبدية أو تراث حضاري مندثر ، يحاول إغفالها أو التقليل من شأنها . سأحاول فيما يلي الإطلالة على أبرز هذه المعالم والإشارة إلى أهم دلالاتها . 1 – الإنسان مدني بطبعه ، هذه حقيقة اتفق عليها علماء الإجتماع مبكرا ، لذلك لا يمكنه العيش إلا في جماعات ، والجماعة الأولى هي الأسرة ، وتعريفها : الأم والأب و أولادهما ، ثم تتوسع الى العائلة الممتدة حيث تتفرع منها أسر جديدة عندما تتشابك مع العائلات الأخرى بروابط المصاهرة ، ثم تتوسع عموديا الى العشيرة فالقبيلة فالشعب فالأمة ، وقد يكون التوسع امتداداً أفقيا الى الحي فالقرية فالمحافظة فالوطن فالإقليم ، لكن في جميع الأحوال يبقى الرابط الأولي هو رابط الدم ، أي الإنتماء الى الجد الأكبر . من هذه الأصول والفروع تنشأ بنية المجتمع المحلي وبالتشبيك بينها تعاونيا وبمرور عدة أجيال تنشأ الأمة . 2 – بالمقابل يعتمد النظام البديل وهو النظام الرأسمالي المطبق الآن على اعتبار الفرد وحدة مستقلة ، مسؤولية تنشئته تقع على عاتق الدولة ، فهي التي تربيه وتوجهه وتنفق عليه وتتكفل بتأمينه صحيا واجتماعيا وليس والديه ، بل أن دورهما يقتصر على الإهتمام بتلبية احتياجاته الى ما قبل سن البلوغ ، بعدها يصبح حرا في البقاء تحت رعايتهما أو الإستقلال بحياته الخاصة ، وعندها لا يمكنهما فرض رعايته أو توجيهه إلا برغبته وفي حدود محددة . لذلك يكون ارتباط الفرد مع المجتمع ( الدولة ) مباشرا ، ويتحدد هذا الرابط بمقدار منفعته من الوطن ، وانتماؤه له بمقدار ما يحقق له من رفاهية العيش . إن فلسفة النظام الرأسمالي تنطلق من أن ازدهار وسائل الإنتاج تتحقق من مجموع قدرات الأفراد ، ودافعهم لبذل الجهد نابع من المصلحة الجماعية بنجاح الأفراد كل من موقعه في تحقيق نمو مضطرد . وذلك نابع من سعي أصحاب الأعمال الى دوام تطور منتجهم ، لأنهم في حالة سباق دائم مع منتجات منافسيهم ، ويعتمدون في ذلك على ابداعات الأفراد وليس الجماعات ، لأن الفرد في المؤسسة أيضا في حالة تنافس مع الآخرين في نفس الحقل لكي يبزهم ويتفوق عليهم وبالتالي ينال موقعا قياديا يتميز عليهم . 3 – من هنا نفهم الفارق الجوهري بين النظام الرأسمالي والإسلامي ، لأن كل منهما يبني المجتمع ويؤسس علاقات الأفراد بطريقة مغايرة ، النظام الرأسمالي يتطلب الإستحواذ على معظم وقت الوالدين ( كلٌّ في عمله ) ، مما يعني عدم تفرغهما لممارسة الأمومة والأبوة الكاملتين ، وإيكال ذلك الى مؤسسات متخصصة بذلك . الإسلام يسعى الى بناء المجتمع المثالي مستفيدا من الفطرة البشرية السليمة ، وهي الرابط العاطفي القوي بين الإبن ووالديه ، واللذين لا يمكن الإستغناء عنهما أصلا في مرحلة الطفولة ، إذ أن حضانة مؤسسات العناية بالطفولة الرسمية لا يمكن أن تقدم ما يماثل عطاء الأم ، وتربية معلمي الروضة ( البستان ) لا يمكن أن توازي تربية الأب لإبنه . من هنا نلاحظ أن ما يقدمه الوالدان للطفل الرضيع لا يمكن تعويضه بما تقدمه المؤسسات البديلة ، فالعملية ليست خدمات فقط ، بل هي تفاعل إنساني وتبادل عاطفي يُشكّلُ تلبية للغريزة ( الفطرة ) للطرفين ، وهذه العلاقة هي أساس لبناء الصحة النفسية السليمة ، والتي تؤسس لتنشئة النفسية المستقرة والقويمة للطفل . 4 – مع تطور الرأسمالية المتوحشة ، أصبح التنافس محتدما بين المؤسسات المتشابهة ، والناتجة من تضخم الشركات الكبرى نتيجة لاستحواذها على المؤسسات الأضعف ، ومن هذه العملاقات الصناعية ، ونتيجة ذلك تكوّنت الكارتيلات الكبرى التي توصلت الى تقاسم النفوذ ، وبالتالي الى السيطرة على أصحاب القرار السياسي ، الذين هم يُنفّذون السياسات التي تخدم مصالحها ، لذلك نلاحظ أن الفرد في الغرب أصبح يمثل برغيا صغيرا يدور طوال الوقت مع عجلة الإنتاج العملاقة ، وليس لديه وقت ليمارس انسانيته بأبعادها الروحية ، بل تجده مربوطا بقرض سكني يسدده طوال عمره الإنتاجي .. أي يظل يلهث ليبقى فردا يأكل ويعمل بلا كلل ، وهو مرعوب من فكرة أن يطرد من بيته إذا تأخر تسديد القرض . هذا هو الإنسان الذي يريده النظام العالمي الجديد ، فردا يسهل قهره وليس أسرة متكاتفة متكافلة تتأسس على علاقة إنسانية مقدسة . في مؤتمر السكان والتنمية العالمي المنعقد في القاهرة عام 1994 ، أعطي تعريف للأسرة على أنها : هي فردين أو أكثر يعيشان معا ! أليس ذلك الإغفال لمبدأ الزواج من أجل تحطيم البنية الأساسية للمجتمع ( الأسرة ) وتحويله الى مجرد أفراد ذوي مصالح متباينة ؟ ألا يلاحظ أن التعريف أغفل كلمتي الزوج والزوجة ، لشمول المثليين ! هل أدركنا الآن لماذا تبذل الجهود للقضاء على الإسلام بكل وجوهه : السياسي والإجتماعي والفكري بذريعة محاربة الإرهاب ، أليس لأنه هو العقبة الوحيدة الباقية في وجه تلك الغيلان الجشعة ؟ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى