في العمق

#في_العمق

د. #هاشم_غرايبه

كان من أهم ما حققه طوفان الأقصى، ومنذ اليوم الأول للمعركة، هو أنها نفضت غبارا تراكم سنين طويلة، قوامه تثبيط همة الأمة واستسلامها لما فرضه الغاصبون من إقامة الكيان اللقيط في قلب الأمة ، وكانت تعمل على تركيمه جهات متعددة، أولهم المستعمرون الأورووبيون معادو الأمة التاريخيون، وثانيهم المتقاعسون القاعدون لايريدون قتالا ولا خسارة، وثالثهم المنافقون الممانعون من اتباع منهج الله.
هذا الغبار الذي سمحت أنظمة سايكس بيكو بتراكمه الى أن تكلس وأصبح عصيا على النفض والإزالة، هو وهم تفوق هذا الكيان وعدم القدرة على مقارعته، لتبرير الرضوخ لإملاءاته، والقول أنه ليس من سبيل الا بالتوسل، ومناشدة ضمير الغرب، بطلب المساعدات التي تبقي المطرودين من أرضهم على قيد الحياة، من غير أن ينالوا الحق الطبيعي لكل انسان بوطن يؤويه، لذلك بشروا بالحل السلمي، وصار أقصى مطالب العرب رسميا السماح لهؤلاء المشردين بالإقامة في جزء صغير من وطنهم (جزء محدود من الضفة الغربية وقطاع غزة)، تحت مسمى حل الدولتين، والذي هو في حقيقته ليس دولتان، بل دولة قوية لليهود تملك كل شيء بما فيه التحكم في كل مقومات الدولة الثانية، فيما لا تملك الدولة الثانية (للعرب) أيا من مقومات السيادة المعروفة للدول.
هذا الحل هو أصلا أمريكي، وطلبت من الأنظمة العربية بما فيها السلطة الفلسطينية، جعله سقفا لمطالبها، فانصاعت هذه الأنظمة، وقدمها الوفد السعودي لمؤتمر القمة الذي عقد في بيروت عام 2002 ، وبالطبع تمت الموافقة عليه بالإجماع، وأصبح مسماه المبادرة العربية.
لكن تبين بعد قليل أنه خدعة أخرى لشراء الوقت، إذ تخلت أمريكا عن وعدها، فعادت وطلبت من الأنظمة التطبيع الكامل قبل أي تفاوض، ولما انصاعت أيضا، عادت فطلبت منها إقامة مكاتب للموساد في عواصمها لأجل ما سمته التنسيق الأمني، والذي هو ليس تنسيقا بالمعنى المعروف، بل تقديم معلومات عن المعارضين لـ (العملية السلمية)، أي الذين يؤمنون بالجهاد (الكفاح المسلح)، للقضاء عليهم.
هكذا أصبح هذا (التنسيق) أي التعاون الاستخباري من أهم واجبات الأنظمة، فجُمّدت (العملية السلمية) التي هي ورقة التوت الوحيدة للأنظمة لستر عورتها أمام شعوبها، ولما أصبح الرضوخ والتنازل ديدنها، فقد فرض الغرب عليها التعاون والمشاركة العملية في محاولة اجتثاث الروح الجهادية من الأمة نهائيا، تحت مسمى الحرب على الإرهاب، وما أغراها بذلك أمران، أولهما أنها تتخلص من معارضيها، وثانيها التمويل ونيل ألأعطيات والهبات الغربية.
آخر التنازلات كان قبول التخلي عن المبادرة العربية، والقبول بالتبعية الكاملة للكيان اللقيط اقتصاديا بالتطبيع، وعسكريا بحجة التحالف ضد الخطر الإيراني، ضمن ما سمي بصفقة القرن التي فرض على الدول الغنية (الخليجية) تأمين تمويلها، وكان من أهم نتائجها ظهور ما سمي بالديانة الإبراهيمية الهادفة لإلغاء العقيدة الإسلامية برمتها، ولم يبق الا الاستيلاء على البيت الحرام، تماما مثلما حاول ذلك أصحاب الفيل قديما، لكن في هذه المرة باستخدام فيل التطبيع، وكانت الخطة تمضي قدما، ولم يبق الا أيام قليلة قبل الإعلان الرسمي عنه.
منذ محاولة ابرهة الأشرم، لم تجرؤ قوة أجنبية على إعادة الكرة، ولما أنه للبيت رب يحميه، فقد تدخلت الإرادة الإلهية مرة أخرى، فكان أن قيض من عباده الصالحين من قام بهذه العملية البطولية في غزة، والتي صدمت الكيان اللقيط فعطلت المشروع، لذلك وجدنا الغرب يهبون هبة رجل واحد لنجدة القلعة المحصنة التي جهدوا عشرات السنين في التمكين لها بكل الوسائل.
وما كان هذا التدمير الهمجي ليمرر بسهولة أمام أعين الإنسان الذي يتشدق بإنسانيته، لولا الرعب الذي انتاب الغرب حكاما وشعوبا، وهم يرون هذا الكيان على وشك الانهيار، فلم تكن حصونهم مانعتهم أمام العقيدة الراسخة، ولم يكن التفوق التقني الهائل مقابل الاسلحة البدائية للمجاهدين بمنجدهم.
كل ما قام به الغرب المستعمر لديارنا طوال القرن المنصرم، أنهم كانوا يحاولون ابعادنا عن عقيدتنا لأنها سر تفوقنا الوحيد، والى حين تمكنهم من ذلك، حرصوا على عدم حدوث مجابهة مباشرة بين المجاهد والغازي المحتل، بل من وراء جدر التقنية، فيقاتلون بكبسة زر من طائرة أو دبابة.
بعد الطوفان انكشف زيف القوة التي لا تقهر، فهي نمر من ورق، وما انتصروا علينا إلا بالتخذيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى